من إجل مجتمع إسلامي سلمي*/ حنفي ولد دهاه

السادة الحضور

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

انقسم العالم الإسلامي، منذ أن اصطدمت مدافع نابليون بالحضارة الإسلامية في دمياط، في القرن السابع عشر، إلى معسكرين: متغربين انسلخوا من إهاب هويتهم الحضارية و الثقافية، و متجذرين يعضون بالنواجذ على ثقافة الجمود و التحجر، مما جعل العالم الإسلامي أمام أزمة مركبة، تتحول فيها المواقف الحديّة إلى صراع دموي، تؤجج أُواره عوامل ومصالح  داخلية و خارجية..  تجعل التكفير يصادر التفكير، و الدفاع عن الثغور بالقتال وليس بالعلم و العمران و إرساء ثقافة الاختلاف.

إن بث ثقافة و ممارسة الأمن و السلام هو من دعائم تحقيق الحياة الكريمة، على هذا الكوكب الذي يجمع بني الإنسان، من أفناء شعوبه و نوازع قبائله و شتات أعراقه، وتباين  أديانه و اختلاف مداركه الفكرية و العقدية.

و قد سعى الإنسان خلال رحلته الأزلية للبحث عن تحقيق الرفاه المادي و السلام الروحي، اللذين لا يتأتّى تحقيقهما بغير بسط الأمن و السلام، و هو أيضا ما دأب الإسلام على تكريسه في كل أدبيات مجتمعه الفاضل، حيث ورد في حديث إبي الدرداء رضي الله عنه قوله عليه الصلاة و السلام إن “من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”.

فقد كان السلام مطلبا عظيما، و مقصداً عميماً،  يبسط جناح السكينة و الرحمة و التآلف على كل  البسيطة، معتبرا جوهر الإنسانية و مراعياً قيمتها، و جاعلاً منها مداراً لجلب المصالح و درء المفاسد، فلا تفاوت في الحق الطبيعي في السلام  و السلامة  بعرق أو وطن أو دين أو مذهب،  فقد خاطب الله تبارك و تعالي نبيه الرحمةَ المُهداةَ بقوله “و ما أرسلناك إلا  رحمة للعالمين”، و العالمون جمع عالَم وهو لما سوى الله من المخلوقات: إنسٍ أو جنٍ أو ملائكة.

و عن إبي هريرة رضي الله عنه قيل: يا رسول الله، ادعُ على  المشركين، فقال: إني لم أُبعث لعّاناً و إنما بعثت رحمة..  كما رفض عليه الصلاة و السلام أن يطبق الأخشبين على قومه الذين كذبوه و آذوه.

ولقد حرص الإسلام على بسط الأمن و السلام ..  فقال تعالى “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة”، و في حديث البخاري “و الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”، وفي حديث مسلم “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، و لا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلُّكم على شيء إذا أنتم فعلتموه تحاببتم: افشوا السلام بينكم”.

وقد تداخل الإسلام و السلام في لحمة و نسيج واحد، وامتزجا امتزاجا كاملا،  فزيادة على الاشتقاق اللغوي، ففي كل صلاة من الصلوات الخمس التي يناجي فيها المسلم ربه، يتأمل المسلم كلمة “السلام” لفظا و معنى.. كما أن السلام هو التحية التي يبادر بها المسلم كل من يلقاه.. وقد اعتبر فقهاء المسلمين أن البدء بالسلام الذي هو من المناديب أفضل من رد السلام الذي هو من الواجبات..   ثم أن السلام هو من اسماء الله الحسنى، كما أن “دار السلام” اسم من أسماء الجنة التي هي مثوى المتقين… و هكذا وردت كلمة “السلام” و مشتقاتها في القرءان الكريم  إحدى و أربعين مرة، في حين لم يتجاوز ورود كلمة “حرب” في القراءان ثلاث مرات، أما كلمة “السيف” فلا ورود لها البتةَ في الذكر الحكيم.

و لعل التكريم المطلق و التعظيم المجرد لذات الإنسان يقتضى، في هذه الفترة التي  اختلط فيها مفهوم “الجهاد” على العامة، مراجعة فريضته بمدلوله القتالي، حين يتعلق الأمر بقتل الإبرياء واستهدافهم في أنفسهم و أموالهم و أعراضهم، وذلك اتقاء فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة.. مثلما كان من مقاصد الشارع في تحريم الخمر سعيها لإفساد العقول، التي أمر الله بصيانتها، تماما مثلما أمر بصون الأرواح البريئة و النفوس الزكية.. و في ذلك يقول الشاعر:

لا تنــل من عظيـم قـدر و إن كنـــــــــــتَ مُشاراً إليك بالتعظيم
فالجـــــليل العظيم يصغر قدراً   بالتجري على الجليل العظيم
ولع الخمــــر بالعقول رمى الخمــــــــــــر بتنجيسها و بالتحريم

فالقاعدة الأصولية تقرر أن “المسلم و الكافر في مصاب الدنيا سواء”، فما قولك بالمصيبة التي تُهلِك المسلمَ و أخاه الإنسانَ غيرَ المسلم، وتشرّدهم و تقذف بهم في بلاد الله الواسعة نَوىً شُطُراً، شاحطي الديار عن الأهل و الأوطان و الإحبة، فيشقى أطفالهم و تمتهن نساءهم، و تهان إنسانيتهم.. و ترسم معاناتهم من صور الشقاء و العذاب ما جلّ الإسلام، بسموه و قيّمه، أن يكون سبباً فيه أو وسيلة إليه.

و حتى لو افترضنا جدلاً  صدق دعوى الغلاة و المتطرفين من أن ما يصيب المسلمين في بلادهم من غزو الأجنبي قد يكون مدعاةً للقتال، فقد يكون في القوة و السيطرة الكونية للآخر، ما يجعل من مواجهته و الأمة بهذا الخَور و الوهن  إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة.. وحتى على اعتبار أن سبب نزول الآية “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” هو نية الأنصار التخلف عن الغزو  مع النبي صلى الله عليه وسلم و الإقامة على الأموال و إصلاحها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب..

ثم إنه “إذا كانت المطالبة بالحق حقاً،  فإن البحث عن السلم أحق، و هو بحث قد لا يغير أصل الدعوى، ولكنه سيغير وسائلها”.. و قد تواتر من الآيات و الآثار الداعية الى جعل السلام قولا وعملا وسلوكا للمسلم ما استنبط منه العلماء أن السلام مقدم على طلب الحق، و أن السلم أرجح من الحقوق الجزئية، و الفرصة التي يمنحها السلم للمصالح الدينية و الدنيوية أنجع من الفرص التي تعد بها الحرب، و المفاسد المترتبة على التقاتل تفوق تلك المترتبةَ على التنازل.

ثم أن الجهاد، على افتراض توفرِّ أسبابه و مقتضياته، لا ينحصر في حمل السلاح و إنما يكون بالكلمة الطيبة و بالجدال بالتي هي أحسن، و تقديم النموذج الذي يحتذى به في الأخلاق و القيّم الفاضلة..  فكما قال شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم انياس رضي الله عنه:

أروم رضــــى الباري لنصـرة دينه     و أبرز للجيــــل الجديد مثالا
ضعيف عليـــــــل شائب متحمس      لينصـــــر ديناً، لا يروم قتالا
فإن النبي الهاشمي الدهرَ ما غزا      بلى صدّ عدوانا، وردّ ضلالا

لقد شهدت ثقافة العنف الفكري و الجسدي، في العالم الإسلامي، تطوراً غير مسبوق، تجسد، حسب رأي الخبراء و الباحثين، في أبعاد خمسة:

أولها: البعد النوعي المتمثل في درجة العنف التي لم تستثنِ أي نوع من الأسلحة، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل.

ثانيها: البعد المكاني المتمثل في الاتساع و الإنتشار، حيث يشمل رقعة واسعة من البلاد العربية و الإسلامية، و يرشح للامتداد إلى مناطق أخرى،  فحين يمعن المرء نظره إلى خريطة العنف الكونية وجغرافيا الأزمات، ستتراءى له ألسنة اللهب و هي تجعل من العراق و ليبيا و لبنان دولاً فاشلة، و من مصر بلدا على حافة الانفجار، و من سوريا و اليمن أشلاء تتناوشها ضواري الحرب و تؤذن حُبالى أيامها بمخاض عسير، و من جنوب الجزائر وشمال مالي و حدودها مع موريتانيا منطقة يتحالف فيها الإرهاب الديني بعصابات الجريمة المنظمة..   أما نيجيريا و النيجر فتعيث فيها عصابات  بوكو حرام فساداً.. كما انتعشت دولة داعش بعد إخفاق مشروع العالم الإسلامي في مواكبة قيم الحداثة.

أما ثالثها: فيتعلق بالبعد الزمني، حيث لا يلوح أفق زمني منظور لنهاية هذا الصراع الدموي، الذي لا تزيده الأيام إلا ضراوة و احتداماً.

أما رابع الأبعاد فهو البعد النفسي و الفكري، الذي يفرز ثقافة التطرف و التعصب و التحريض، فتنتشر فتاوى التكفير و التضليل و التبديع و التفسيق، فتستباح بها دماءٌ و تهتك أعراض و تخفَر ذمم، و يُدعى لجهاد في غير محله، و ينهى عن منكر بما يؤدي لما هو أنكر.

حيث يعلو أدعياء العلم المنابر ، فيقضون في النوازل و يتصدرون للفُتيا، التي قال القرافي إنها إخبار عن الله تعالى، بغير علم، و يحكمون بغير عدل، فيَضلِون ويُضلّون.. فلا هم يفرقون من النصوص بين مطلق و مقيد و لا بين خاص و عام و لاحقيقة و مجاز، و لا تفسير أو تأويل.. و لا هم يفقهون قواعد اللغة العربية، أو يبرَعون في علم الحديث.. وقد صدق العلامة الشنقيطي محمد الحسن ولد أحمد الخديم حين قال:

إني أراكم يا هداة العصر    بقــــــــــرية و كــــل مـــــصر
على الحديث كلكم وقد فسد    لسانه أجـرأ من خاصي الأسد
هلا قــــــرأتم قبل ذا المروم    ألفـــية أو ابــن آجــــــــــــروم
خوض المعارك و أنتــم عزلُ     هل هو جــــد عندكم أم هزل

والتكفير الذي يعرّفه الفقهاء بأنه  “إصدار حكم شرعي على شخص أو جماعة بالكفر سواء كان أصليا أم حادثا” أصبح عامل تحريض و إثارة فتن، وقد قال تعالي “و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا، تبتغون عرض الحياة الدنيا”.

وفي صحيح الآثار و الأخبار من النهي و الوعيد لمن يكفر غيره ما يطول ذكره، و قد روى البخاري و أحمد “من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله”. لما يستلزم ذلك من تحريض المتطرفين على سفك دمه.

و لا يجوز استسهال الحكم بالتفكير، كما هو حال غلاة المسلمين و متطرفيهم، فكما قال الإمام السبكي “ما دام الإنسان يعتقد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فتكفيره صعب”.

أما البعد الخامس، فيتعلق بالصورة المشوهة التي أصبحت ترتبط عالميا بالإسلام، باعتباره دين دم و دمار، حتى أن بعض المتطرفين اقترح محاكمة الإسلام و أهله  بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

و في صدد البحث عن أنجع الطرق في معالجة ظاهرة الإرهاب و العنف الديني تتأكد المقاربة الثقافية المبنية على تقديم النموذج الإسلامي الأصيل في ترسيخ ثقافة الحوار و احترام الاختلاف الفكري، و  التباين في الرؤى، و قبول “الآخر” و التعامل المزدوج معه من منطلق إنساني، يلجم المطامح و المصالح بلجام الحكمة و الإخاء،  لا يجعل من الحرب وسيلة لفرض العقائد أو انتزاع الحقوق، ولا حتى وجها آخر لتطبيق السياسة، كما قال  كونفوشيوس، و إنما كما ورد في ديباجة ميثاق منظمة اليونسكو “إذا كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن نبني حصون السلام” ، و كما قال العلامة  الشيخ عبد الله ولد بيه “لنشن حربا على الحرب لتكون النتيجة سلماً على سلم”.

و من هذا المنطلق يجب تصحيح مفهوم “الجهاد” الذي ليس مرادفا للقتال و إن كان بينهما نسبة عموم وخصوص من وجه، فليس كل جهاد قتالا و ليس كل قتال جهادا. كما ينبغي أيضا مراجعة و تصحيح مفهوم “الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر” الذي  يلجأ المتطرفون لممارسة العنف الجسدي في تغيير ما يعتبرونه منكرا، و قد قسّم ابن القيم  في كتابه “إعلام الموقعين” إنكار المنكر إلى أربع درجات:

1- أن يزول و يخلفه ضده
2- أن يقلّ و إن لم يزل بجملته
3- أن يخلفه ماهو مثله.
4- أن يخلفه ماهو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، و الثالثة موضع اجتهاد، و الرابعة محرمة

و هكذا يجب تصحيح مفهوم “طاعة السلطان”، ليناسب في مدلوله امتثال القانون، باعتباره ـ حسب تعريف إيمانويل كانت ـ “الفعل العادل الذي يسمح بتعايش حرية كل فرد مع حرية الفرد الآخر، حسب قانون كليّ، بحيث تسمح قاعدته المعيارية بهذا التعايش”،  مما يساعد  في تجنب الفتن و ضمان السلم و الاستقرار، وليس الاستسلام المطلق للظلم و الجور.

و هكذا أيضا فإن مفهوم الولاء والبراء من المفاهيم  التي ينبغي تصحيحها في هذا الصدد، فهو من  المفاهيم التكفيرية ، التي سُفكت بموجبها دماء كثيرة “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين”.. ولا نطيل هنا بتفسيم الفخر الرازي في تفسيره  و ابن العربي المالكي في أحكامه لمراتب الولاء، غير أن الخلاصة أنه ولاء للدين و بالتالي فهو ولاء للوطن و للإنسان.

و  لا يفوتني في نهاية حديثي أن أؤكد أن المقاربة الأمنية التي اعتمدتها بعض الدول الإسلامية في استئصال شافة الإرهاب و التطرف الديني، كانت لها نتائج عكسية، و قد أسفرت عن عنف و عنف مضاد، و عن حرب سجال تدور رحاها على جميع الأطراف.. فلن تستقيم مكافحة الإرهاب و العنف الديني بغير مقاربة  ذات حلقات مترابطة، تمزج الأمني بالديني و الاجتماعي و الاقتصادي، ففي الوقت الذي يضلع العلماء المستنيرون بدورهم في تزكية النفوس و تربيتها على سماحة الإسلام و مسالمته، يكون على الحكومات أن تضع استراتيجيات جامعةً مانعةً، للحد من البطالة و لدمج الشباب في الحياة النشطة، و النأي بهم عن الوقوع في براثن الفراغ:

إن الشباب و الفراغ و الجدة       مفسدة للمرء أي مفسدة

فالواقع أنه لا أمل بدون استتاب الأمن في تنمية الاقتصاد، كما أنه لا أمل في تحقيق الأمن، ما لم يزدهر اقتصاد، تُسد فيه خلة الشباب و يقضى فيها على جهله و بطالته.

كما تنبغي مشاركة الشباب في صناعة مستقبلهم، من خلال إتاحة الفرصة لهم للتعبير عن طموحاتهم و العمل على تحقيقها، و منحهم مناخاً تتكافؤ فيه الفرص، و تُرعى فيه المواهب و تُشجع الطاقات. ففي الأقتصار على المقاربة الأمنية من الشطط ما يهدد تطبيق الديمقراطية و قيم حقوق الإنسان.. حيث أن تعميم النموذج الديمقراطي الليبرالي باعتبارها ديمقراطيات مسالمة، تستوعب الخلاف و الاختلاف، في جو من الاحترام و قبول الأخر، قد يكون الطريق الأنجع لتحقيق الطمأنينة، حسب التعبير الإسلامي و “السلام الأبدي” (حسب تعبير كانت) أو اتحاد الأرواح، حسب تعبير سبينوزا، و الذي هو مقصد إسلامي و إنساني.

و في النهاية نمد أكف الضراعة والتذلل لله تبارك و تعالى أن يوفق الخلائق للأمن و التسامح والتعايش السلمي و بث روح الوئام و المحبة، و أن يحفظ الأمة و أن يحفظ الإنسان.

 

* ورقة مقدمة في مؤتمر السلام العالمي بدكار

الحوار السياسي جُنًةُ / المختار ولد داهي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

  • أصدر المنتدي الوطني للديمقراطية و الوحدة أحد أقطاب المعارضة الوطنية منذ أيام بيانا " حديد اللهجة"حول الحوار السياسي : مساره و معوقاته و آفاقه متهما الموالاة بما سماه "عدم الجدية" و " السعي إلي تنظيم حوار جزئي مع بعض أطراف المعارضة"مما يحيل إلي الذهن تخوف المنتدي من إمكانية تنظيم النسخة الثانية من حوار الموالاة و المعاهدة من أجل التناوب الديمقراطي الذي التأمت نسخته الأولي أواخر سنة 2011.
  • و لم يصدر حتي الآن رد من أي من أطراف الموالاة علي مضامين و إيحاءات بيان المنتدي مما يفسر بأنه تهدئة تتبع تصعيدا، تهدئة ترفع من رصيد المولاة لدي الرأي العام باعتبارها حريصة علي تجنب كل الخرجات الإعلامية الهجومية أو الدفاعية التي قد تؤثر سلبا علي قليل ضمانات الثقة التي تم التحصل عليها حتي الآن بين الطرفين.
  • و يعتبر بيان المنتدي أول كبوة علنية للحوار يتعين علي كل الموريتانيين المؤمنين بأن الحوار-بلغة رمضان المبارك الذي نتهيأ لشد مئزر عشره الأواخر- جُنًة ( وقاية) من جميع مخاطر التجاذب و الاستقطاب غير الرشيد علي السلطة خصوصا في هذا الزمن العربي شديد ضبابية الحاضر و المستقبل، يتعين عليهم إذن أن يبذلوا كل الجهد و يقدموا كامل التضحية من أجل تصحيح الموقف و تنظيم حوار سياسي جامع محصور الموضوع موطإ الآليات يفضي إلي توافق وطني عاصم.
  • و إذا ما أردنا تفسير كبوة الحوار هذه فيمكن إرجاعها إلي الأسباب التالية:
  • 1-الطول الممل و المحبط لفترة "التمهيد" و "التسخين": حيث مضت شهور مديدة علي دعوة رئيس الجمهورية إلي حوار سياسي جامع و استجابة المعارضة بجناحيها لتلك الدعوة و ما تلا ذلك من تبادل العديد من أوراق العمل و عقد الكثير من اللقاءات العلنية و السرية ،الرسمية و المجاملاتية ابتغاء الاتفاق علي شكل و مضمون "بطاقات دخول الحوار" أو ما سمي " ممهدات الحوار".
  • و خلال هذه الفترة الطويلة ظل موضوع الحوار يطفو تارة فيخطف المشهد السياسي و الإعلامي و ينعش طموحات الموريتانيين في التوافق وإبعاد الخوف من المجهول و يخبو تارات عديدة حتي يخيل إلي المراقب الشفيق المترقب أن الحوار فشل و مات وأصبح من الماضي.
  • و يعود الطول المخل لفترة التمهيد من جهة إلي صعوبة بناء الثقة بين الأطراف السياسية الوطنية المشبعة بتاريخ طويل و مرير من ثقافة "لي الأذرع" و " الطعن في الظهر" و "إرادة الظفر بكل شيئ أو لا شيئ" و تغييب ثقافة "التنازلات و التفاهمات السياسية".
  • كما يعود إلي تثاقل " البيروقراطية السياسية" التي تحكم النصوص المنظمة لسير و عمل المنتدي من جهة أخري بحيث يتطلب اتخاذ أبسط قرار بحضور اجتماع ما عقد عشرات اللقاءات الماراتونية التمهيدية و "المتنية" بين أذرع المنتدي الاخطبوطية السياسيية و النقابية و المدنية و المستقلة و غير المصنفة...
  • 2-رئاسة المنتدي من خارج الأحزاب السياسية:يتداول علي نطاق واسع أن أطراف عديدة و نافذة من الموالاة و المنتدي معا غير راضية عن ترأس الأخير من طرف شخصية غير حزبية ذلك أن الحوار السياسي هو بالأساس شأن الأحزاب التي هي التعبير الجمعي المدني عن الإرادة السياسية.
  • 3- تقاعس ا"لأحزاب الكبري" بالمنتدي عن ريادة ملف الحوار: يلاحظ المراقبون خلال ما فات من " المسار شبه الضائع" للحوار تقاعس الأحزاب الكبري بالمنتدي حسب معايير أقدمية التأسيس و حجم الموروث النضالي و ماضي التمثيل البرلماني و البلدي و مستوي الامتداد الجماهيري عن ريادة ملف الحوار
  • ويعتبر غياب الأحزاب الكبري بالمنتدي عن زمام الحوار أمرا غير مفهوم حتي الآن في الوقت الذي يجزم خبراء و محللون مُصدًقون أن لو كانت إدارة ملف الحوار بيد بعضهم لكانت فرص تقدم و نجاح الحوار أكثر و أوفر.
  • 4- صخب و تشويش الجاهلين بالحوار: يرجع بعض المراقبين كبوة الحوار و تعثره إلي صخب و تشويش فئة قليلة العدد كثيرة الحركة جهورية الصوت من الموالاة و المعارضة تعادي الحوار و تضع العصي في دواليبه لأنها ببساطة تجهل فوائده و مضار غيابه و تغييبه و من جهل شيئا عاداه.
  • و من الغريب أن هذه الجماعة المعادية للحوار و لكل القيم الديمقراطية برزت و انتعش دورها و حضورها مع بداية المسلسل الديمقراطي فهي "عمل ديمقراطي غير صالح" وتستمد حضورها الإعلامي و السياسي و الإداري من حدية و استقطاب الحياة السياسية و لا تألو جهدا في استدامة توتير و تسخين المشهد السياسي و ما ذلك إلا لأنها في حال تطبيع المشهد السياسي ستكون أثرا بعد عين.
  • تلكم بعض الأسباب التي ربما يرجع إليها التعثر الحاصل في مسار الحوار و الذي أفتأ أكرر أنه علي جميع الموريتانيين الحادبين علي وطنهم أن لا يقبلوا بفشل الحوار السياسي و لا بتحييده عن حجمه و أهدافه تهويلا أو تهوينا تضخيما أو تبخيسا...مقدرين حجم و حساسية "اللحظة العربية و الإسلامية و الإقليمية".
  • و أخشي ما أخشاه أن يستغرق السياسيون موالاة و معارضة في معارك التجاذب و الاستقطاب و الحدية وشد الحبل السياسي و عدم الأخذ بالتدرج و الطموح المفرط في إرادة خلق جزيرة ديمقراطية بيضاء مثالية في بحر موجه متلاطم من التفجيرات و "العصبيات" و الإعدامات و "إعلان الطوارئ"...
  • حتي إذا طال أمد الحدية و التجاذب استنزف الجسم السياسي الوطني و ترهل ثم تسلل أعداء الديمقراطية من دعاة العنصرية و التطرف الديني و الشرائحية و المناطقية إلي منصة المشهد الوطني ساعتها سيذكر"غلاة الحوار" ما كنا و ما كان يمكن أن نكون فيه من نعم الديمقراطية و الأمن و التنمية و الاستقرار .

المختار ولد داهي

سفير سابق و خبير تقييم السياسات العمومية

الإسلام والإرهاب واللا إسلام

بقلم الأستاذ : محمد فال / محمد / ألمين

رئيس المجموعة الشبابية لحزب الفضيلة

من الضروري التأمل في المشهد الحالي للأمة الإسلامية ، وما تشهده من أحداث مأساوية تطرح عدة أسئلة حول ظاهرة الإرهاب ، وعلاقتها بالإسلام ، والبيئة التي وفرت الظروف الحاضنة لهذه الظاهرة في المجتمعات المسلمة.

  من خلال هذه الجدلية نود الإجابة على سؤالين هما : ما العلاقة بين التطرف ومحاربة الإسلام ؟ وهل سد الباب أمام المشروع الإسلامي مغذ لهذه الظاهرة ؟

  عند نظرنا إلى السؤال الأول نجد أنه كل ما كان نظام الحكم في بلد إسلامي معين , معاد لكل ما هو إسلامي ، نجد ميلا غريبا في هذا المجتمع للتطرف ، ولعل هذا راجع إلى ردة فعل معين من المجتمع على سلوك السلطة .

  ومن الأمثلة الحية على هذا ، واقع الحال في الجمهورية التونسية الشقيقة ، فعندما كان نظام بن على يعذب الإسلاميين في السجون ، ويضيق على التونسيين في عبادتهم حتى وصل به الأمر أن منع المواطنين من الحج في أحد المواسم مدعيا الحفاظ عليهم من أنفلونز الطيور ، وهو في الحقيقة منتهزا أي فرصة تسمح له بمحاربة شعائر الإسلام ، كان التطرف أكبر وأوسع انتشارا.

   أما التضييق الخانق على المصلين ، والنشاط الإسلامي للحركات الإسلامية فحدث ولا حرج.

  ومن هنا كانت ردة الفعل سابقة الذكر تجد مغذي رئيسي لها وهو السلطة الحاكمة ، ولعل ما جرى من تحريض على حكم حركة النهضة من الطرف اليسار التونسي هو مجرد امتداد لما كان يقوم به هذ الكيان في ظل نظام حكم ( بن علي )، فهو ــ أي اليسار ـــ  من دجل  (بن على) وشكل رؤيته المعادية للإسلام كما يقول (عبد الفتاح مور ) وذاك عند وصوله للسلطة نهاية الثمانينات .

    ولا أدل على عداء اليسار العربي خاصة ، لكل ما هو إسلامي من عدائهم لشركائهم في الثورة في تونس ، ومصر، إذا كانوا شاركوا في الأصل في ثورات الربيع العربي .

   ففي تونس اتخذوا من مقتل ( بلعيد ) شماعة لشيطنة حركة النهضة واتهموها بالمسؤولية عن مقتله ، ومنطلقهم في ذلك هو الإمعان في العداء لكل ما هو إسلامي ، فإذا افترضنا جدلا أن حركة النهضة مسئولة سياسيا كونها من يتولى زمام الأمر آن ذك ، فهذا يعني مسؤولية السبسي ونظامه عن الهجمات الإجرامية الأخيرة ، وهذا ما لم يقل به أحد من وطاويط اليسار التونسي.

  وهذا كله يؤكد نظرية التربص لدى هذا الكيان ويعطي مشروعية ــ إلى حد بعيد ــ لردة الفعل تلك ما دام المعتدل محاربا وهذا يعطي تمهيدا للإجابة على سؤالنا التالي.

  ويتعلق سؤالنا هذا بسد الباب أمام المشروع الإسلامي ، ومحاربته بأبشع الوسائل المتاحة.

   ومن الجدير بالذكر أن المشروع الإسلامي المعتدل القائم على أساسين اثنين هما : تحكيم شرع الله بين عباد الله كحد أدنى ، والعودة بالأمة الإسلامية إلى ظلال الخلافة الراشدة كحد أقصى ، تأكيدا للمقولة القائلة أن الأمة لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها .

  لا يخرج المشروع الإسلامي المعتدل إن لم نقل الصحيح عن هذه الثنائية مهما اختلفت أطيافه ، وقد رضي القائمون على هذا المنهج بالتباع أنجع الوسائل المتاحة عالميا للوصول إلى الحكم بغية تنفيذ مشروعهم ، لكنهم فوجؤوا بحملة عشواء من طرف من لا قيم لهم ولا دين ، وأصحاب النفوس المريضة ، متلاقية مع كراسي مهتزة تملك الكثير من الوسائل ، فحطمتهم أمام عالم لا ضمير له ، المتحكم الرئيسي في توجهاته هو المصلحة ، وإن كانت على أشلاء الجثث في رابعة والنهضة .

  فماذا بقي أمام الشباب المسلم الغيور على دينه عندما غيب موجهوه في غيابات السجن في أحسن الأحوال ، أو القتل في أحيان أخر ، إلا أن ينجرف تحت أي شعار يقول لا إله إلا الله وإن كان حاملوه مجرد قتلة بسم الدين لا يمكن تبرير نهجهم بأي وجه شرعي .

فهم في إجرامهم تجاوزوا كل الحدود ، ولم يراعوا لا دينا ، ولا عرفا ، في مختلف أفعالهم .

  ولكن يبقى من وفر البيئة الملائمة لنموي هذي الظاهرة أكبر جرما منهم بكثير .

  ونشير في الأخير إلى سؤال تجب الإشارة إليه موضوعيا وهو هل كان لعدم تطبيق المشروع الإسلامي ، من طرف حامليه ـــ حين أمكنهم ذلك ــ دور فيما حل بهم في الوقت الحالي ؟ وهل أمكن لهم ذلك فعلا؟

بقلم الأستاذ : محمد فال / محمد / ألمين

رئيس المجموعة الشبابية لحزب الفضيلة

عندما استدعاني الرئيس!!

حبيب الله ولد أحمد

 بدأت أجهزة الدولة تحضر للمؤتمر الصحفي الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية يوم 5 مايو 2015.

 

 

كانت هناك لوائح تأتى من "الخلية الإعلامية بالرئاسة" ومن خيرة القائمين على "التلفزة الرسمية" ومن "الفيلق" الإعلامي بوزارة العلاقات مع البرلمان ومن الجهات "الإخبارية" بحزب "الإتحاد من أجل الجمهورية"

 

 

كانت الحركة دائبة عبر هذا "الأخطبوط"، ومن حين لآخر تحذف أسماء وتضاف أخرى، حسب تقلب مزاج الرئيس الذي يراجع اللوائح كما يراجع تلميذ في الابتدائية دروس امتحانه النهائي..!!

 

 

كان من المهم لدى السيد الرئيس أن تكون اللائحة "مريحة" بالنسبة له، فالصحفيون المشاغبون يفسدون المؤتمرات الصحفية، وربما أخرجوا الرؤساء من وقارهم و"أحرجوهم" ليظهروهم بمظاهر غير ديمقراطية أحيانا.

 

 

الصحفيون الذين سيقابلون الرئيس ـ والذين قابلوه مرات سابقة ـ يتم التعامل معهم "سرا" كما يتم التعامل مع "الكباش" التي تعبر النهر من موريتانيا إلى السنغال أياما قبل "العيد الكبير" ، والتي يجب أن تكون "سمينة" و"سليمة" و"صالحة للأضحية".

 

 

و"السمنة" و"السلامة" و"الصلاحية" ضرورية، لكنها تختلف ـ معياريا ـ بين "الصحفيين" و"الكباش"، وإن لم تختلف كثيرا نظرة "الجزار" إلى "الكبش" عن نظرة "الحاكم" إلى "الصحفي"..!!

 

 

لم أكن أحلم يوما بدخول القصر الرئاسي، لا رئيسا ولا مرؤوسا، فأنا أعرف قدري، وأجلس دونه بشبرين وذراعين .

 

 

عشرون عاما وتزيد، وأنا مضاف إلى مهنة الصحافة إضافة وقعت ـ كعادتها ـ لأدنى سبب ، ومع ذلك لم أشارك أبدا في مؤتمر صحفي رئاسي، أو نشاط حكومي، أو زيارات رئاسية، أو وزارية، ولأسباب عديدة لستم بحاجة لأن أشرحها لكم ، فبعضكم يعرفها ،وبعضكم لا تهمه كثيرا.

 

 

تعودت على الغياب أو لنقل "التغييب" عن مثل تلك الأنشطة، لدرجة أنني سأصدم كثيرا عند دعوتي لها، وأفضل أن أبقى بعيدا عنها أو مبعدا عنها ،لأن ذلك قاعدة وما سواه استثناء يصل حد الصدمة.!!

 

 

ولكن فجأة ـ نعم فجأة .!! ـ رن هاتفي وكلمني الرئيس محمد ولد عبد العزيز شخصيا، وأصر إصرارا غير مسبوق على دعوتي للمشاركة في المؤتمر الصحفي القادم.

 

 

لم أصدق الأمر لكن صوت الرئيس ـ الذي كان واضحا وبنفس النبرات التي أعرفها في خطاباته وبنفس طريقة النطق ـ قطع شكي باليقين .

 

 

لماذا تذكرني، و هل يعرفني أصلا، ومن أين له برقمي، ولماذا أنا بالذات.؟!!

 

 

أسئلة حاصرتني وأنا أفكر في جواب أقوله للرئيس.

 

 

سأحضر، لا لن أحضر فأنا مشغول .

 

 

تلعثمت كثيرا، فالدعوة شخصية ومفاجئة، وغريبة وصادمة.!!

 

 

كيف نسيتني "الخلية الرئاسية" و"التلفزة" الرسمية و"وزارة العلاقات مع البرلمان" و"الأذرع الإعلامية" لحزب "الإتحاد" و تذكرني الرئيس..؟!!

 

 

كان الرئيس حازما وصارما :"حبيب ضروري أن تحضر معنا واعتبره طلبا قبل آن أحوله إلى أمر"

 

 

ماذا علي أن أقول، وهل يمكنني أن أعصي أمرا للرئيس، ومن أنا حتى ارفض طلبا يرقص الجميع على رجل واحدة لو وجه إليهم.؟ّ!!

 

 

يبدو أنني في غمرة الذهول ـ وتحت الصدمة ـ ضغطت ـ مرتبكا مرتجفا ـ على زر "إنهاء المكالمة" فى "صينيتى"..!!

 

 

شعرت بحرج كبير، ثم تذكرت أن الرئيس لن ينزعج منى، فهو نفسه أمر بوقف بث التلفزة الرسمية على الهواء غاضبا، درجة طلبه من الصحفيين الانسحاب، وإبداء استعداده لإنهاء مؤتمره الصحفي.

 

 

ومن قطع البث عن ملايين المشاهدين، في ثورة غضب، ـ وبتلك الطريقة الفجة ـ لن يستغرب أن يقطع مواطن بائس ضعيف مرتجف مكالمة عابرة.ا

 

 

في الواقع هاجمتني أسئلة لا حصر لها وأنا أقطع مكالمة الرئيس بالخطأ.!!

 

 

هل علي الذهاب إلى الحمام التركي أو البخاري..؟!!

 

 

أين سأجد "كوستيما" لائقة ومتكاملة مع أحذيتها وب"مقاسات" تناسبني (التصريح بتلك المقاسات لابد أن يثير جدلا مثل تصريح الرئيس بممتلكاته) .!!

 

 

هل تكفيني "لبسة" طبيعية عادية من "خنط" شعبي غير مكلف.؟

 

 

وما هي طبيعة الأسئلة التي علي أن أطرحها من بين كل "الكلمات المتقاطعة" التي تشغل بال المواطن.؟!!

 

 

الحوار، اكتشاف كميات نفط وغاز جديدة ،ارتفاع الأسعار، مشاكل الشباب، والبطالة، والفقر، هشاشة التغطية الصحية، والتعليمية، الملفات الأمنية محليا وخارجيا ،سياسة التعيينات، ملف إسحاق ،وولد صلاحي، وولد عبد العزيز، وولد يطن، ملف الحراكات الاجتماعية، والفوضى الإعلامية، وغياب الدولة، وعائدات النفط والذهب والحديد والنحاس والصيد، ومشاكل الزراعة والتنمية، وشكاوى الطلاب في الداخل والخارج، وغياب تطبيق القوانين واتفاقيات الصيد مع الأوروبيين، والعلاقات مع الجزائر والمغرب، والموقف من الصراع في مالي، ومظالم الأطباء والممرضين، والأساتذة والمعلمين، وفوضوية استيراد وتوزيع الأدوية وغياب مراقبة جودتها.

 

 

وكانت فكرة غريبة تسيطر على مخيلتي، وهي أن أقضى الأيام التي قبل المؤتمر الصحفي مع أحمدو ولد الوديعه، لأتعلم منه طريقة طرح أسئلة مثيرة لخطف الأضواء من الرئيس، وإخراجه من القصر و"المدنية" ـ بمجرد ملاحظة ـ إلى "الثكنة" تصرفا وسلوكا وعقلية، أو مع شنوف لأتعلم منه السير في حقل "ألغام" الأسئلة التي لا تزعج الرئيس، ولا يراد منها إزعاج معارضيه ، أو مع أبى المعالي لأتعلم منه طرح أسئلة محددة "الجرعات"، ومحسوبة "الخلطات" ،التي لا يراد منها علاج مرض، ولكن يحرص على أن لا تفاقمه أو تعثر شفاءه،أو مع حافظ الغابد لأتعلم بهدوء طرق أبواب الأسئلة المحرجة دون فتحه على مصراعيه.

 

 

أو حتى مع الرئيس نفسه، لأتعلم منه الطريقة التي تجعلني أطرح سؤالا دون انتظار جواب محدد، ولأعرف أن مجرد ظهور وجهي الكريم ـ بربطة عنق أو بدونها ـ بأسئلة قيمة أو تافهة هو منة رئاسية وإكرامية، لا تقل عن "خلع" ملك لردائه على شاعر، وكان تصرفا رمزيا كبيرا أيام عز الملوك العرب، ولا أدرى ولا أريد أن اعرف هل كانت عزة الملوك بألسنة شعرائهم، أم أن عزة الشعراء ب"أعطيات" ملوكهم.

 

 

المهم قررت أن أرد على مكالمة الرئيس لأعتذر عن قطعها لا إراديا كما ينقطع التيار الكهربائي يوميا عن العاصمة ولأقول له إنني ... قد لا أجزم له بالحضور، لكنني أضعف من أن أعتذر عن تلبية دعوة رئاسية، قد تتحول من طلب إلى أمر، فيقذفني الحرس في مقعدي عنوة ، وأنا مكبل بالسلاسل مثلا، و معي ورقة أسئلة "مدسوسة" في جيبي، لا ينبغي لي أن أتقدم عنها أوان أتأخر.

 

 

رقم الرئيس مع الأسف كان مخفيا، ولذلك لم أستطع مهاتفته، خاصة وأننى كنت مستغرقا في النوم وأحلام "الحموضة"..!!

"مضاد وطني" لتفشي "الالتهابات" العرقية و الحقوقية و الشرائحية...

المختار ولد داهي /سفير سابق /خبير تحليل و تقييم السياسات العمومية

لا أحسب أن مكابرا مدمن المراء يستطيع أن يتجاهل كون الجسم الوطني يعاني اليوم أكثر من أي وقت مضي من التهابات عرقية وشرائحية وحقوقية،... تزكم رائحتها الأنوف و تنذر بالتعفن الذي قد يحولها إلي أمراض أكثر استعصاء إذا لم يتم تطهيرها وعلاج آثارها العرضية وأسبابها الجذرية بقدر غير قليل من السرعة و الجرأة والحكمة والتضحية والصرامة و"القوة في الحق" و القوة في اللين...
و قد ينصرف إلي ذهن البعض أن واجب معالجة هذه الالتهابات يعود للدولة و الحاكم وحده بينما المطلوب المسنود بشواهد التجارب الناجحة في العديد من دول العالم يشير إلي أن معالجة هذه الظواهر هو أولا و قبل كل شيئ عمل النخب الفكرية بالأساس ذلك أن الأمر يتطلب إصلاحا مجتمعيا و لا يكفيه برنامج سياسي و الإصلاح المجتمعي شأن أهل الفكر و النظر لا أهل السياسة و الإدارة.
قد لا يخطئ البعض حين يرجع الانتشار السريع لهذه " الإلتهابات" إلي مناخ "الحرية المفتوحة" الذي تعرفه البلاد و الذي شجع أصحاب المظالم علي الجهر بها و نفض الغبار عنها و المطالبة بتصحيحها و التعويض المادي و المعنوي عنها،... و اختلط في ذلك حابل المظالم الحقيقية المؤسسة علي وقائع من الماضي و شواهد من الحاضر مع نابل أصناف أخري من المظالم منه النفسي و الوهمي و الكيدي.
و يمكن تقسيم تلك الالتهابات التي يعاني منها الجسم الوطني إلي ثلاثة أصناف: التهاب عرقي و التهاب حقوقي و التهاب شرائحي و مناطقي.
فبخصوص الالتهاب العرقي فصحيح أن الدولة الموريتانية الحديثة عرفت منذ نشأتها الأولي - و التي كانت نشأة ضيزي- شجعت علي التجاذب و الاستقطاب و الاحتقان العرقي بلغ أحيانا حد الصدام العرقي ( أحداث 1966،1979،1989،1991) مما خلف رواسب حقوقية سالت مياه وطنية و إقليمية و غربية كثيرة تحت الجسور قبل إيجاد تسوية مادية و معنوية محمودة بأياد موريتانية وطنية-لآثارها( عودة و دمج اللاجئين، تعويض أصحاب الحقوق تعويضا مجزيا،اعتذار ضمني للدولة عن تجاوزات أحداث 1991،...)
و الضجيج المثار الآن حول المسألة العرقية يجد تفسيره في أنه لا زال قلة قليلون من "تجار المظالم" يعيدون رواسب الاحتقان العرقي أحيانا إلي الواجهة الإعلامية تحت يافطات دعوات الانفصال و الحكم الذاتي و إعادة تأسيس العقد الاجتماعي و مكانة اللغات الوطنية و الفرق بين اللغة الرسمية و اللغة لوطنية و الهوية التعددية أو الهوية الأحادية.. وتصعد حدة اللهجة و تهبط عند تجار المظالم هؤلاء حسب تأرجح مؤشر اتجاهات رياح الأجندات الإقليمية و الدولية التي يقتاتون عليها...
أما فيما يتعلق بقضية الاسترقاق و رواسبه فإنها رغم النيات و الأعمال الحسنة المعلنة من الجميع حكاما و معارضة و نخبا فكرية و من كافة عامة الناس.. لا زالت تستحق المزيد من الاستشراف و المقاربة و التصويب و الاستفادة من التجارب الناجحة للغير.
و قد يصيب البعض حين يرجع استعصاء اختفاء الاسترقاق و رواسبه إلي فشل جزئي لكل من المجتمع المدني( ابتداء من الدولة الوطنية الحديثة) و المجتمع الأهلي( النخب الفكرية و التيارات و الأحزاب السياسية،...) في استشراف خطورة إهمال انعكاسات هذه الظاهرة المجتمعية التي عرفتها كل المجتمعات تقريبا و ما عرفه المجتمع الموريتاني منها -حسب موقع نظري- كان من الصنف المتوسط حدة و اتنشارا.
وقد تجاوزت العديد من الدول و المجتمعات ظاهرة الاسترقاق و رواسبه بفعل إصلاحات و مراجعات مجتمعية ثاقبة قادتها النخب الفكرية و فرضتها علي النخب السياسية و تلك هي الحالة الطبيعية حيث أن النخب الفكرية تهتم أساسا بالاستشراف و الوقاية و العمل في دائرة الأمد المتوسط و الطويل بينما النخب السياسية "مسكونة بالعاجلة" و حساب الربح و الخسارة الآنية و العمل داخل دائرة الأمد القصير و لعل إحدي أهم مشاكلنا في هذا البلد هي استقالة النخب الفكرية و تمييع النخب السياسية.
وقضية الاسترقاق و رواسبه اليوم تكاد تحيد عن مسارها بفعل استقالة النخب الفكرية و تمييع الطبقة السياسية( حيث أصبحت السياسة مهنة من لا مهنة له) و ما قد يوصف بشيئ من تراجع ألق "الرشداء" - و كثير ما هم- من المدافعين عن حقوق ضحايا الاسترقاق و رواسبه في مقابل طغيان أصوات فئة قليلة العدد من "غير الرشداء" الذين يجهرون بالسوء من القول اتجاه الدين و الوطن والتاريخ... وهم بذلك يسيئون إلي القضية أكثر مما يخدمونها بحيث يعملون علي اختزالها و تقزيمها بتحويلها من قضية إجماعية لا يختلف اثنان علي و جاهتها و استعجالها و أسبقيتها في الشأن العام إلي مسألة فئوية لها أنصار و "قاسطون" و دون ذلك.
 أما الصنف الثالث من الالتهابات فيرتبط بالعديد من الصيحات الشرائحية و الحقوقية و المناطقية.. و التي من الأكيد أن منها ما لا يخلو من و جاهة إذا سلم من آفتي التهويل و التهوين و منها ما هو وهمي و ما هو كيدي و منها ما لا يعدو ظواهر صوتية تصطاد منافع سياسية أو مادية أو ما " تيسر" من فتاتهما...
و إذا تمهدت فكرة الالتهابات العرقية و الحقوقية و الشرائحية التي يعاني منها الجسم الوطني علي تفاوت في الخطورة و الاستعجال فإني أحسب أن من واجب النخب الفكرية التداول حول معالم إصلاح مجتمعي كبير يحفظ المجتمع الموريتاني و الدولة الموريتانية من مخاطر الانزلاق نحو رأي الفئة القليلة من " غير الرشداء" من بعض من يسمون أنفسهم "بالحقوقيين" الذين لا يرون أبعد من مواقع أقدامهم.
و في انتظار ذلك اقترح علي أهل السياسة- المتخصصين عادة في المهدئات- ابتكار "مضاد وطني" موجه أساسا إلي مكافحة الالتهاب الأكثر خطورة و هو الالتهاب الحقوقي يتكون ذلك المضاد الوطني من ثلاثة مواد لا تتسع طبيعة هذا النوع من " الوجبات السريعة للتفكير"Fast food for thought لتفصيل تركيبتها لذلك سأقتصر علي تسميتها فقط.
فالمضاد الوطني المطلوب و المتمثل في برنامج عملي مؤقت للقضاء أو التخفيف من الالتهاب الحقوقي يتكون من ثلاثة مواد هي : أولا إنشاء رسم علي الثروة يسمي "رسم التضامن علي الثروة" taxe de solidarité sur la fortune يؤخذ من الأغنياء و توجه عائداته إلي التنمية الاقتصادية و الاجتماعية لمناطق تواجد ضحايا الاسترقاق و رواسبه و ثانيا مأسسة التمييز الإيجابي وتشجيع الخطط السكنية الحضرية المشجعة للاختلاط الاجتماعي(La mixite sociale) و محاربة العوازل السكنية( الكيتوات)و ثالثا إعداد خطة عشرية طموحة باهظة الكلفة للتعليم النظامي و المحظري و التربية المدنية و التكوين المهني و محو الأمية... لصالح سكان مناطق تواجد رواسب الاسترقاق بهدف ردم الفوارق الاجتماعية بين مكونات المجتمع الموريتاني يتم تمويلها بتخصيص غلاف مالي معتبر من عائدات الثروات الوطنية( الحديد، السمك،الغاز، النفط،...).
قد يقول قائل إن الحكومة تتبني بعض مواد هذا المضاد الوطني و هو قول ثابت صحيح و جهد مذكور و مشكور لكن المطلوب هو توسيع حجم المضاد الوطني و أن يشعر المستهدفون بمشاركة المواطن الموريتاني الميسور في التمويل بصفة مباشرة من خلال اقتطاع ضريبي من الأغنياء يوجه لهذا الصنف من الفقراء و بشكل غير مباشر من خلال تخصيص جزء كبير من الموارد المالية العامة لفترة زمنية طويلة مخصص للرفع من شأن هذه الشريحة الهامة من المجتمع و ضمان تكافئ فرص أجيالها المستقبلية مع باقي مكونات المجتمع الموريتاني.

 

النفط.. نعمة الرشاد و نقمة الفساد / الولي ولد سيدي هيب

 
مدخل على هامش العواطف
في الولايات المتحدة الأمريكية، فجر ظهور الصناعة النفطية على يدي إيدوين دريك و استخراجه للزيت في عام 1859 - و للأمانة بعيدا عن لغة العواطف- طاقات شعب خلاق و بالغ الطموح، و أسهم في إرساء الديمقراطية أولا ثم المساواة ثانيا مع إلغاء و محاربة الرق و الرخاء ثالثا فالقوة رابعا و أخيرا. و إن أي شخص لا تحدوه أو على الأصح لا تسكنه نوازع الإنكار وغلبة عنجهية عمى البصيرة لا يمكنه إلا أن يسلم بهذه الحقيقية على الرغم من مرارتها علما بما أصبحت تسببه هذه القوة التي أصبحت فيما بعد الغاشمة من آلام و تعاسات للعديد من الشعوب و الدول المغلوبة على أمرها. وإذ للعداوة أحكامها ومقتضياتها إلا أن ذالك ليس مدعاة لصم الآذان عن الحقيقة واتخاذ إنكار الواقع سلاحا حيث أن الفشل و العجز عن تغيير الواقع يقبعان هنا إذ ذاك و يبددان الأمل و يسهمان في خور العزائم و الاستسلام لليأس.
ولئن كانت بعض الدول قد استوعبت أسرار هذا النجاح وتفوق الأمة الأمريكية بكافة أعراقها و بمختلف أصول سكانها و عملت من ثم على تقليدها حتى حققت قفزة نوعية على طريق الإنعتاق من قيود التخلف و التبعية كالصين الشعبية و الهند الاتحادية بملياريهما من السعرات الحرارية و ككوريا الجنوبية و تايوان و أندنوسيا الإسلامية، فإن الكثير الآخر ما زال يغط في سبات الحالمين العابثين بمصائرهم فوق ثروات طائلة من المعادن النفيسة و النفط و الغاز. و مما لا شك فيه أن ذكر هذه الدول يسقط حتما تلك النظرة التي لا تريد صياغة الأمثلة الدالة على الحيوية وقوة الإرادة بالغرب وهو ما فعلته كما أسلفنا هذه الأخيرة حتى حالفها النجاح في ولوج عصر التكنولوجيا و تمكنت من إثبات أنها ليست حكرا على دول بذاتها. و لكن ما حصل من سقوط النظرة هذه عند شعوب و دول يبدو مستعصيا على شعوب و دول أخرى. و تكمن الأسباب الحقيقية وراء هذا الرفض في تقوقعها داخل اعتبارات حضارية عفا عليها الزمن و تجاوزها المنطق السليم.
ويبدو جليا، بعد ما يناهز الخمسة و الخمسين سنة من مسيرة الدولة الموريتانية الجديدة المستقلة بحكم لغة العصر، لكل من لا يكابر و يعمي نفسه تغافلا أو لحسابات ضيقة أن الشعب الموريتاني لا يزال منتميا إلى هذه الفئة التي تأبى التحول المطلوب للخروج من خنادق التخلف و الجهل و المرض و الصراعات العقيمة على الحكم غاية و هدفا التي يحكم محيطها العام لا منطق الفوضى المدمرة الموروثة عن بعض ظلامية الماضي و ما أملته أحكام غياب الدولة المركزية المتمحورة اعتبارا و حكما و عملا حول تغير موازين القوة و صرامة القبلية و حضور الاثنية و العمل بمنهجية الطبقية و الفئوية الجهوية بكل أوجهها و أشكالها الموغلة في الاعتبارات التقسيمية التراتبية.
النفط و الغاز... نعمة أم نقمة؟
كثر الحديث عن النفط في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم مما قد ولد أيامها آمالا عريضة في ظهور طفرة تداوى جرب السنوات العشرين العجاف التي توالت على البلاد و العباد و كادت مع حرب ضروس 1975/1978 أن لا تبقى و لا تذر. و في بداية التسعينيات خبا وهج تلك الآمال وانصرف الاهتمام إلى مغازلة ما يدعى جزافا بالجهات المانحة. و ظل الحال كذلك حتى انتصفت العشرية عاد الحديث من جديد و بقوة هذه المرة عن تراخيص وضعت بأيدي الأوروبيين والصينيين و الأمريكيين و الأستراليين و غيرهم للبحث الحثيث عن النفط في البر و البحر.
 
 و جدير بالذكر أن الدولة لم تكثر آنذاك من الحديث عن هذه النشاطات، التي كانت حسب ما يبدو، محمومة و متسارعة الخطى. و كان رئيس الدولة إذ ذاك العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع كثير الزيارات لولايات الداخل الذي دأب خلالها على تجديد الآمال لمواطنيه و الإعلان لهم عن قرب تحسن أحوالهم بفضل السياسات التنموية التى كانت توضع أيامها. و لم يشرع في الحديث عن النفط إلا بعد ما لم يكن ثمة بد من فعل ذلك حيث لم يعد سرا أن شركة [ووتسايد] الأسترالية التي اكتشفت و سبرت و قومت وأطلقت الأسماء على مجموعة من الآبار بدأت بجر منصة متنقلة بكامل عدتها و تجهيزاتها إلى حيث أول بئر[شنقيط] لاستخراج و تسويق نفطها. و اتضح بعد سنة واحدة من انطلاق هذه المرحلة أن عدم الإكثار من الحديث عن النفط و انعكاساته الإيجابية كان عن قصد و يشف عن عدم ربط مدخولاته بالعمل التنموي جملة و تفصيلا. وقد تأكد ذلك حينما تحول أمر استغلاله و تسويقه بأيدي ثلة قليلة من المقربين و المتنفذين في الحزب الجمهوري وبدرجة أعلى المشرفين على القطاع المكلف به. ولأجل أن لا تكون هذه الصفقات معلومة على نحو عام فقد عزلت وزارة النفط  بعيدا عن محيط الحكومة عموما و عن الشارع العام خصوصا ونصبت فى طرف العاصمة على طريق مؤدية إلى المحيط الذي يستخرج منه النفط. وقد جلبت هذه الصفقات السرية العار للبلد الذي أصبح ينظر إليه على أنه حظيرة يمكن لأي مبتدإ كشركة ووتسيد الصغيرة الحجم والضعيفة الصيت أن يجد في أحضانها مرتعا وأن يعيث في جنباتها فسادا. كما أن هذه الصفقات لم تجلب الأموال التي كانت البلاد في أمس الحاجة إليها وهي تواجه معضلات جمة من جراء فقر مدقع وتخلف دامغ وإنما أثرت أفرادا لم يحسنوا حتى التصرف في الأموال التي هطلت عليهم من سماء الرشوة ووصلت أيديهم من تحت طاولة نخاسة الوطن و هو الأمر الذي أضحى بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ذلك بأن المهتمين بتنمية البلد من شركاء مؤازرين، مساعدين، ممولين ومساهمين ولوا ظهورهم حينما ظنوا أن طفرة وشيكة الحدوث و أن الحاجة إليهم باتت في طي الماضي. و طبعا فقد انجرت عن هذه الوضعية، التي خلقها غياب الوازع الوطني وموات الضمير وانتصار الأنانية، حالة من اختلاط الأوراق. ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه الشعب نتائج إيجابية تحسن من وضعه وتبث في عضده نشاطا وحيوية -لا شك أن البلاد كانت يومها و ما زالت في أمس الحاجة إليهما- كان الواقع المرير يسحب الأمور في عكس هذه الآمال. من ناحية أخرى كانت هذه الوضعية لتفسد كذلك النوايا في إطار العلاقات القائمة مع الدول المهتمة بتنمية البلدان الفقيرة والمتخلفة و ترشح تقليصا لأنشاطاتها المدرجة في هذا الإطار و إن هذا ما يجعل السؤال واردا عما إذا كان النفط نعمة أم نقمة. ثم إن ما آل إليه واقع تبديد هذه الثروة  كان أحد الأسباب التي أذكت جذوة المطالبات وأججت  عواطف الرفض لهذا الواقع كما قد عجل بالسعي إلى التغيير. وجاءت حركة الثامن عشر يونية من سنة ألفين وأربعة على حين غرة كادت أن تغير مجرى التاريخ لولا أنها لم تولد من صميم الجيش و قد فشلت في مسعاها رغم أن هذا الفشل  كان بمثابة الشرارة التي لم تزل تزداد وهجا حتى تحولت إلى نار اكتوى بها حكم العقيد معاوية على أيدي بعض  المقربين له حرصوا على أن لا تنزلق البلاد إلى حيز الفوضى العارمة فانتظموا في مجلس من الضباط السامين الذين امسكوا بزمام الأمور و أطلقوا وعدا بالإسراع في وضع أسس ديمقراطية مكينة و التخلي عن الحكم لرئيس منتخب من طرف الشعب.
وقد تجدد بمقدم هذا المجلس العسكري الأمل لدى الشعب في أن نفطه وكذا معادنه النفيسة كالذهب والماس ستلقى اهتماما جديدا بحيث توضع الأمور في نصابها وتحدد مسؤوليات ضياعها وتنتشل من براثن المفسدين من مسيرين عديمي الوطنية كما أنه ستوضع أمور استكشافها واستخراجها واستغلالها في الأطر القانونية الكفيلة بحماية مصالح هذا البلد وثرواته. وبالفعل قد أبدى هذا المجلس اهتماما بهذا الشأن بحيث أنه راجع مع شركة ووتسيد الصفقات المريبة التي تم التوقيع عليها على هامش إطار الاتفاق المبدئي. هلل وقتها الشعب بالبادرة الجريئة التي اكتست في أعينه طابع الوطنية الحقة و عمق الغيرة على مصالح البلد من هذا المنطلق.و أحدثت الخطوة في ذلك الوقت حراكا قانونيا وسياسيا لعبت فيه جهات عديدة أدوارا كان أقلها أن أزالت الغبار عن سياسة نفطية هزيلة كانت أشبه ما تكون بالمتاجرة في الممنوعات تديرها مجموعات أقرب ما تكون هي الأخرى إلى التنظيمات و العصابات المافيوزية.
 و مع كل ذلك لم تتحسن حال سياسة النفط ولم ير الشعب انعكاسا لها وأصابه غثيان جديد وسقط في خضم تناسي الحديث عنه. وفي أثناء ذلك واصلت ووتسيد بعد تمويه تجسد في الإعلان عن قبول بضخ أموال في الخزينة الموريتانية أو – و ذلك ما رجحه الشعب- في جيوب البعض،  تعويضا عن ما اتفق على أنه خطأ فني في المعاملات. وقد واصل هذه السياسة وزير جديد من وزراء المرحلة الانتقالية نظر إليه الرأي العام والسياسي المحلي على أنه يشكل أملا جديدا وعاملا على تصحيح أخطاء الماضي. ولم تشهد المرحلة الانتقالية المذكورة أية بوادر للسيطرة على سياسة نفطية وطنية بل ظلت الأخطاء تتراكم وظل البحر يقسم قطعا بمساحات تختلف باختلاف أهمية و وزن مقتنيها كما القطع الأرضية بأيدي ملاك يسافرون إلى الخارج لبيع حق التنقيب فيها وجني ثمار مكنوناتها و خيمت خيبة الأمل من جديد على الشعب.
أنا...  و من  بعدي الطوفان 
رغم التغيير الحاصل والذي بررته أوضاع غير صحيحة كانت قائمة، رهن البلد بأيدي ثلة قليلة أخذت عن سابقتها مشعل العدو إلى الأمام في تكريس إبرام الصفقات المشبوهة سعيا للحصول فقط على عرابين مغلظة من تحت طاولات التفاوض في سياق أنا....ومن بعدي الطوفان.
و لتبرير بقاء الوضعية على ما كانت عليه قبل التصحيح فقد تم اللجوء إلى إثارة جملة من المسوغات، التي وإن كانت رغما عن كل شيء صحيحة، فإنه لم يجر، بإرادة صلبة وصادقة،  تصحيح هذه الوضعية و ذلك... لأمر في نفس يعقوب... مما جعل الأحوال تراوح مكانها وفتح الباب أوسع من ناحية أمام شركة ووتسيد لاستخراج النفط وتسويقه وخلق المبررات والأعذار لتبرير تقلص المدخولات من ناحية أخرى. جدير بالذكر أنه من أكثر هذه المبررات دفعا إلى الميل لتصديق هذه الإدعاءات ما ورد من عجز المنصة عن استخراج وضخ الكميات التي كان من المقرر أن تزود بها حاملات النفط التي ترسوا بمحاذاتها في آجال زمنية محددة لتترك بعد التزود والإبحار إلى وجهات معلومة مراسيها لبواخر أخرى في إطار ما أعلن أنه إقبال جيد على النفط الموريتاني. بهذه المنهجية الجديدة التي اتبعت بأساليب معهودة ولى الحماس الذي كاد يوهم بإمكانية حدوث تحول إيجابي فترة المرحلة الانتقالية و التي ذهب وفتها الكثير إلى تزكيتها و مطالبة ذويها بتمديدها مرات حتى تغطي أطول فترة ممكنة. في الواقع لم تكن ليلة العهد الانتقالي إلا شبيهة بليلة العهد البترولي المقال وإنه في كلا العهدين تصرف المسئولون في ظلام التجني على المقدر الوطني من النفط تحت أضواء مصابيح الرشوة القادمة من وراء المحيط و قد ترك باب التأويلات مفتوحا فيما يتعلق بالأخلاق العامة ومستوى يقظة الضمائر لدى المسئولين من صفوة المجتمع الذين تقع على عواتقهم مسؤولية الغيرة على البلد وصون كرامته قبل مقدراته. وقد كان بديهيا أن لا وازع عندهم في الأمر و أنهم توارثوا منذ عهد الاستقلال الأول تلك الصفة التي لا تعير الوطن و أهله شأنا كبيرا حينما تتراءى لهم مصالح أنانية كبرى و أنما أثبتوا بذالك أن العرق دساس.
ولو أن أمر هذا التحامل السرمدي على المقدرات - التي من المفروض أن تكون الوسيلة التي تطور بها البلاد و تصان بها كي ما يكون لها ظهور في قوائم الدول التي تقتات على فتات موائد الآخرين- ظل متعلقا بما هو في حدود الدولة و بعلم مواطنيها وحدهم لهان الأمر و لكان بقي من الكرامة ما يمكن تداركه، و لكن أن يسعى إلى الخراب لفائدة مستغلين لا يألون جهدا و لا يدخرون وسيلة في سبيل جني الأرباح لفائدة أوطانهم و مواطنيهم فإن ذلك لهو الطامة الكبرى و الخطب الجلل.
وتكررت المأساة...
و مرة أخرى استشرى الأمل في نفوس الموريتانيين الذين - وهذه ميزتهم الكبرى- لا يستسلمون لليأس بعدما خرجت بامتياز من دائرة الأحكام الديكتاتورية إلى فضاء الدول الديمقراطية،
- أمل بإعادة الأمور إلى نصابها و استرجاع ماء وجه بلد جففته زوابع المتاجرة بخيراته بأبخس الأثمان و من خلال أحط الصفقات التي تبرم بعيدا عن أي إطار قانوني في دجى ليل خيانة الوطن و طعن المواطن،
- أمل كذلك بأن يشرك الشعب في تسيير خيرات بلده و لو من باب إطلاعه فقط أولا بأول على كل ما يتعلق بالسياسات في هذا الشأن و ذاك أضعف الإيمان،
- أمل أيضا بأن يرى على أرض الواقع أثرا مهما كان ضئيلا يؤشر على أن عصرا جديدا من البناء قد أطل،
- ثم أمل بأن تسود قوة القانون وأن تقطع الطرق على العابثين بالبلاد من خلال تبديد المال العام والاستهانة بمكانة البلد.
ولكن الذي تكشف، بعد عام من الممارسة الحكومية في ظل الدولة المدارة عن طريق الخيار الجماهيري، هو أن العقلية السائدة هي دونما تحريف تلك التي كانت سائدة من قبل و أن الأساليب المخلة و المتلاعبة بالنظم و القوانين الموضوعة أصلا للضبط لم تستبدل في ظل دولة القانون الجديدة. وطبيعي أن لا يحدث تحسن بل و أن تظل الأمور تتبع منحى الفساد و نهب الممتلكات العمومية و تقويض أركان الدولة. وطبيعي إذا أنه في ظل هذه الوضعية ظلت الرشوة سيدة المواقف في كل الصفقات التي تبرم باسم الدولة في إطار نشاطها الموجه إلى البناء و كذلك في التسيير. و ما تكرار القرارات التي لا تأخذ المناحي القانونية مطلقا إلا دليلا على السير على نفس المنهج السائد كما أسلفنا و بنفس العقلية المتأصلة.
و شهدت الساحة السياسية يومها تجاذبا في الآراء و تقاذفا بالمسؤوليات بأمر الترخيص لشركة كندية بالقيام ببناء مصفاة للنفط بطاقة تكرير تناهز 300000 برميل يوميا مدعمة بوحدتين إحداهما لتوليد الطاقة الكهربائية و الأخرى لتحلية مياه البحر المالحة. و يتمثل الطرفان المتناقضان:
- من جهة في شخص الوزير الأول أنذاك الذي شكك في قانونية الترخيص الذي أعلن أنه لم يكن على علم به و قد جاءه العضو في حكومته وزير الطاقة صحبة الوفد الكندي الذي يرمي حضوره إلى تدارس إجراءات انطلاق العمل الفعلي في المصفاة. وقد استبقى الوزير الأول بعد الاجتماع المذكور مع الكنديين وزير الطاقة لاستيضاح أمر الترخيص و حيثياته و قد أجابه بأن الصفقة تمت بعلم و أمر من رئاسة الجمهورية من خلال الوزير الأمين العام للرئاسة آنذاك و أن الشركة الكندية المذكورة كانت استوفت كل الشروط القانونية المطلوبة في هذا السياق،
- من جهة أخرى في شخص الوزير الأمين العام للرئاسة المذكور و الذي أكد قانونية الصفقة مع الإشارة إلى أنها اتخذت الأوجه و الصيغ التي لا سبيل إلى الطعن فيها و نعتها بالا قانونية.
من الجدير بالذكر أن الوزير الأول كان وضع في إطار سياسته المتعلقة بالنفط أمر تحديد مصير مصفاة انواذيب العتيقة و التي بنيت إبان الجمهورية الأولى و لم تجن منها البلاد و لو جزءا ضئيلا من الأموال الطائلة التي صرفت في تركيبها. وتضمنت السياسة المذكورة مجموعة من التصورات من بينها على سبيل المثال البحث عن  شريك قد يرغب في تولى إعادة تأهيلها و من ثم تشغيلها.
علي الهامش كما كان الحال
وكأن أمر هذه المصفاة لا يهم غير الجهات العليا، فقد ظل التداول بشأنها منذ كانت اهتماما مدرجا في برنامج المندوبية العامة للاستثمارات الخاصة بعيدا عن معرفة الشعب رغم أهميته القصوى بالنسبة للوطن ككل في قيمته الإستراتيجية والسيادية و الاقتصادية حيث أن حصول تكرير بعض من نفط الوطن على أديمه سيحقق أهدافا كثيرة أقلها:
-         تأمين الاحتياجات المحلية من المحروقات التي لا سبيل إلى دفع أي عجلة تنموية  بدونها
-         الحماية من المضاربات الدولية التي يحدثها تناقص النفط في كثير من الأحوال مما يرهن الاقتصاديات الضعيفة أصلا للدول النامية و لو لفترات تقويضا بذلك على الدوام للجهود و مفسدا للحسابات ومربكا إعداد المخططات التنموية،
-         تكريس معرفة تقنيات التكرير في إطار ما يدعى بتحويل و تبادل التكنولوجيا
-         خلق فرص جديدة و كثيرة للعمل المدر للدخول المعتبرة تمس و تستفيد منها شرائح عريضة من القوى الحية العاطلة.
و لم يؤت الإعلام الرسمي - الذي ظلت لغته خشبية و منهجه ب "اتجاه واحد" - فرصة كسر هذه الأغلال و الالتزام بمقتضيات الديمقراطية ليلعب الدور المنوط به في تكريس الشفافية. و أما الإعلام الحر فهو على حيويته و جموحه لا يكاد يجد منفذا إلى المعلومة من فرط سد الأبواب و تحكم أسلوب التكتم. و على كل حال فإن المعلومة التي لا تعطى الإعلام الرسمي عصية بطبيعة الحال على الإعلام الحر... فإذا ضرب الإمام، خاف المؤذن.
الأمل المتجدد.. و القلق المعربد
إنها المرة الثالثة التي يجري فيها الحديث عن اكتشاف مقدرات كبيرة من النفط و الغاز في المياه الإقليمية الوطنية باستثناء تلك التي تحددت اماكنها على اليابسة في العمق من الوطن و أطراف على الحدود، من قبل شركات عالمية تعمل في المجال. و هي المرة الثالثة كذلك التي ينتعش فيها الأمل لدى مواطني هذا البلد الذي ما زالت تتقاسمه و تدهسه آفات الفقر و الجهل و الاعتبارات الاجتماعية الموغلة في الظلامية التراتبية و الإقطاعية و الفئوية و الارستقراطية و الرجعية و تحول بينه و بين الأخذ بأسباب الرقي و بناء دولة القانون و المواطنة و إعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والشعب.
فهل يكون في استخراج هذه الثروة الهامة من النفط و الغاز مدعاة هذه المرة إلى الاطمئنان في خلق واقع جديد يتسم بإرادة تجاوز مظاهر الغبن و الإقصاء و الخلافات العميقة المزمنة و المقلقة؟
و هل أن المسار الحقوقي و السياسي الذي فرضت التحولات العالمية و ثورة المواصلات و الإعلام اكتسابه أشكالا و ألوانا و أبعاد جديدة غيرت وجه تاريخ الإنسانية، سينسجم مع استغلال هذه الثروات و يكون بمثابة البلسم لجراحات الوضعية الغير سوية التي لم و لا تجد في السياسة و أهلها المخرج منها و لا الدولة العادلة طريقها إلى البروز إلى حيز الوجود و فضاء التطبيق، علما بأنه من المؤكد أن اكتشاف النفط ظل من الناحية الإستراتيجية و كذلك استغلاله سببا رئيسيا في جلب عداء الدول الكبرى للدول المصدرة له في العديد من المناطق التي ظهر فيها بكميات معتبرة كدول الخليج و نيجريا و ليبيا و غيرهما التي تتمتع بالإضافة إلى ذلك بالموقع الاستراتيجي فيما أن الدول الصناعية الكبرى هي المستهلكة الرئيسية للبترول، وتحتاج إليه بشدة لدوران عجلة الإنتاج والتصنيع فيها و تريده بأثمان رخيصة و إنه قبلنا لم تتمكن مجموعة من الدول النامية استيعاب عائداتها الضخمة و تصميم برامج تنموية تفيد اقتصادياتها و لم تسمح خططها التنموية المختلفة بتنمية بلدانها و إسعاد شعوبها، بل قامت بما يسمى بـ" إعادة تدوير " العائدات الضخمة التي تولدت لديها باتجاه الدول الصناعية مرة أخرى لاستثمارها هناك. وبذلك حرمت اقتصاداتها من مصدر أساسي لتحقيق تنمية شاملة في اقتصاداتها، واقتصادات الدول المحيطة بها.؟
و هل تضع الدولة سياسة تساهم من خلالها الفوائض الضخمة التي ستتراكم لدى دولة من مدخلات الغاز و البترول لتوفير و تأمين استقرار الموازنات المالية و تتحمل تجارب الإصلاح التي سوف تتكرر بعدما لم تُؤتِ ثمارا في معظم الأحيان؟
خاتمة على هامش الاستياء
و مما لا شك فيه أن للبترول لعنة تصيب الدول التي لا تستطيع تجنبها و أن للأموال الطائلة التي تجنى من صفقاته الجانبية المجافية للوازع الديني و الوطني و الأخلاقي، تأثيرا لا يمكن الإفلات منه إلا بقوة الإيمان بالمصلحة العليا للوطن. وإذا كان من المسلم به منطقيا أن العيش بكل أموال الدنيا في وطن مستنزف،  ومهدور الكرامة لا يؤمن سعادة و لا يكرس قوة،  فإن تقاسم الموجود فيه قل أم  كثر هو الضمان الأوحد للبقاء عن جدارة واستحقاق في عالم يسعى كله إلى إقصاء الضعفاء.