لن أتبرع للمنتخب الوطني !! ؟ الشيخ ولد أحمد

يسرني أن يرتفع علم بلادي خفاقا في المحافل الدولية، وأن يطير اسمها عبر كافة أصقاع المعمورة.ولن تكون فرحتي ذات حدود عندما يحقق منتخب بلادي نصرا هنا أو هناك. ولست بحاجة للبرهنة على صدق ذلك، فهو أمر لا تستشير فيه نفسي ذاتي، إذ هو أمر نابع من الخلجات والوجدان واللاشعور.

التبرع فضيلة لا مراء فيها، وخصلة محمودة حثت عليها نواميس والأرض والسماء، وهي في بلدي أعظم وأجل ، ولكن ترتيب الأولويات في بلادي ظل مسألة ثانوية ، وهو شيء متغير يميل مع مزاج الحاكم حيث مال.

لا أدعو في هذا المنوال إلى مقاطعة حملة التبرع لصالح المنتخب الوطني وإن كانت مفزعة ، مذكرة بحالات الطوارئ والكوارث وعام التسفير.

و في جانب منها أيضا هي مسألة محاباة لرأس النظام كما حصل "لقصر الشعب" و " للكتاب " وللأمية " في زمن سابق .

لن أتبرع للمنتخب الوطني مادامت أمهات لي وأخوات وجارات مدفوعات بضيق اليد وضغط الحياة وضنك العيش يصطففن فجرا في برد الشتاء القارس أمام أبواب دكاكين " عزيز " للحصول على لتر من الزيت أو سمكة " ياي بوي" ؛هي رمق أطفالهم وكأن ذلك السهم الحقير، هو جملة ما يستحقون من ثروات بلادهم الطائلة.

لن أتبرع للمنتخب الوطني ما دام مستشفى كيفه بدون تجهيزات وما دامت أسرته بالية وصيدليته خاوية وسيارة إسعافه وحيدة .

كيف أتبرع وأغلب قرى ولايتي مفتقرة إلى ممرض يقدم إسعافات أولية أو قرص أو قطعة قطن ، ومن ذا الذي يطلب مني التبرع وأطفالنا يموتون في كل مكان من لسعة عقرب أو ضربة شمس أو نوبة ملاريا.

لا لن أتبرع للمنتخب الوطني ما دامت أختي الحامل في " بمب صاله" و"جفتن" و"بوسريويل" يدفعها المخاض إلى وضع طفلها على عربة حمار ملتمسة الطريق إلى اقرب مركز صحي.

لن أتبرع للمنتخب الوطني ما دام مزارعو " مقطع اسفيره" و"الدحاره" و"الخشبه" و" لعويسي " يعملون بأدوات أجدادهم في العصور الحجرية وبذات الأسلوب وماداموا متروكين على هامش الحياة : لا سدود ، لا سياج ، لا بذور ، لا أسمدة ولا دعمات أخرى في أرض هي ملك زعماء القبائل والنافذين والأغنياء ...

لن أتبرع للمنتخب الوطني مادام فقراء من بني شعبي يقتاتون من عائدات تافهة لصحون فحم و "آز" ونبق جمعوها بعرق الجبين من أودية أفله أو لمسيله أو آفطوط .

كيف أتبرع للمنتخب الوطني وكافة مدارس ولايتي دون أبواب ونوافذ وما دام المعلم " الرسول" محتقر جامع لمائة رأس من التلاميذ في غرفة واحدة ضيقة ، مظلمة ومتهالكة.

لا لن أتبرع مادمت مدرسة " العجله" في ذلك العريش المخزي ومثيلاتها كثيرة في باقي القرى والأرياف.

لن أتبرع مادامت أحياء : المطار ، التميشه ، السيف وغيرها دون ماء وكهرباء ، ومادام سكان " كفيره" و"أركاب " و" الطبال" لا يجدون شربة ماء نظيفة لأطفالهم.

لن أتبرع للمنتخب الوطني والمنمون في " آكواليل" ، و" الهيه" " ، و"الجنكه" و " العدله" لا يجدون المياه لسقاية أنفسهم ومواشيهم.

لن أتبرع لهذا المنتخب الوطني بدينار واحد ما دام من بين بني وطني جياع يتضورون ومرضى يئنون وعاطلي عمل يتيهون.

لن أتبرع مادام القائمون على شؤوننا ، المتحكمون في رقابنا يملأون الدنيا ويشغلون الناس بالحديث عن الطفرة والانجازات ويقولون إن كل شيء على ما يرام.

لتذهب الديمقراطية إلي الجحيم

حينما صدر مقاله ” محوا للعار ” طلبت من السيد محمد يحظيه ولد أبريل الليل لقاء شخصيا عاجلا فكان رده بأنه هو من سيزورني في مكتبي في جريدة العلم ضحى الجمعة ،ودون أن يشوب مسلكه أي تذلل قدم إليَ في نفس الموعد ،كنت أقدرالمهابة السياسية التي تكلل هامة ذلك الرجل و التزامه الإيديولوجي، ومع ذلك أطلعته دون مواربة علي مخاوفي من أن مقاله يمثل مرجعية للجهود الرامية للتأجيج والإطاحة بالرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبدالله عبر قنوات غير ديمقراطية وتأثيرات ذلك على محظيتنا الديمقراطية ، تناولنا أطراف حديث صريح وعميق ،لكن المفكر الكبير فاجأني في نهاية الحديث بقوله : من قال إننا نريد الديمقراطية . الديمقرطية ليست من إنتاجنا ،لقد جاءت ضمن الإملاءات ….أطرقت مليا من هول الخلاصة وإزدادت مخاوفى، فالشخص الذي يخاطبني من صناع الرأي العام في البلد وقوي الفراسة …

حصلت على لقاء عاجل بالفريق محمد ولد الغزواني، بادرته بالحديث ” …..تعلم السيد الفريق أن تسويق إنقلاب 2005 كان من أصعب المهام رغم انسجام الطبقة السياسية حول تأييده والدفاع عنه ، الأهداف الكبيرة التي دفع بها الموريتانيون للعالم هي التأسيس لنظام ديمقراطي جاد يدعم فرص التناوب السلمي وينهي طموح الجيش في السلطة ،وها أنتم اليوم ومن مواقعكم العسكرية تحركون البرلمانيين والسياسيين للتأثير علي الحياة السياسية وتعطلون مسار المؤسسات الدستورية ،هذا ضد وعكس العقد السياسي والأخلاقي الضمني مع الشعب والذي تم تجسيده في حزمة الإصلاحات القانونية عبر الأيام التشاورية …. أجابني بعد أخذ ورد “… نحن نموت دفاعا عن الرئيس سيدي وعن الديمقراطية …” لم يمض على ذلك اللقاء شهران حتي أطيح بالرئيس سيدي بانقلاب عسكري كان ولد الغزواني هو الشخص الثاني في ذلك الإنقلاب ، ووضع كلا من سيدي والديمقراطية في السجن . ليس هنالك بد من التذكير بأن أكثر الذين كانوا يفيضون غبطة وسرورا هم منتخبو الشعب وكانوا هم الذين روجوا للإنقلاب قبل وقوعه ودافعوا عنه في المحافل الدولية بعد ذلك ،الموقف الذي يستحق التوبيخ من العقل البشري .

زعيم المعارضة الديمقراطية هو الآخر انضم لذلك الإنسجام ورحب بإنقلاب عسكري علي مشروعية سياسية أولي في البلد ، كانت من أولوياتها وضع حد لعبثية العسكرالمستمرة منذ 1978 . الديمقراطية ليست هدفا عند الموريتانيين بقدرما هي شعار يلوح به السياسيون في الهواء ويهوون به إلي الأرض : مطية يركبها الجميع، بين الذي ينقلب عليها رافعا شعار إصلاحها أو الذي يرفع شعار حمايتها من أجل أن توصله للسلطة أو لمآرب شخصية وعندما يتحقق أيا من تلك الأهداف ، لتذهب الديمقراطية إلي الجحيم . .

مرة أخري وأثناء التفاعل السياسي طالبت المعارضة الديمقراطية بتعليق الدستور “الوثيقة الأم ” لقاء البحث عن إتفاق بين الفرقاء ينهي الأزمة السياسية ،وكأن الدستور الذي ألبسناه حلته الخامسة ـ أخذا بكل الإصلاحات ـ لا يتضمن أي مواد تعالج الخلل في الممارسة السياسية ، أليس من العبث إحاطته بكل هذه الطنافس والبهرجة المعنوية التي توحي بقدسية لا أثر لها في الواقع ، فالكل يعرف أنه لايزن جناح بعوضة حينما نتعرض لأزمة دستورية .

ومع كل ذلك لازلنا نتعارض مع أنفسنا حينما نظهر وكأننا نسعي بنشاط غير عادي إلي إستكناه مغزي الديمقراطية من إصلاحه . إن الواقع وعلي نحو قاطع يكمن في انعدام تعلقنا بالديمقراطية وفق أهميتها الحقيقية بإقامة معايير شاملة ومفتوحة للمشاركة في النظام الأساسي تسمح وباستمرار، لجماعات جديدة ومصالح إجتماعية جديدة بالتعبير عن ذاتها بالإنضمام للتوافق العام .

إن غياب هذا الفهم الصحيح داخل النخب هو النتيجة التي توصل إليها ذلك العجوز المتبصر من أن الديمقراطية ليست من إنتاجنا ، ولاتملك أي جذور بأرضنا ، وبالتالي لم تستطع عقولنا ولا وعينا ولانضالنا أن يخلق أي نوع من التعلق بها. ا لحوافز التي يملكها القادة السياسيون والطلائع في الدفاع عن النظام الأساسي ومنحه القوة اللازمة للدفاع عن نفسه في مواجهة الإستبدادات لا توجد عند الموريتانيين . ولا يوجد التفويض لأي وثيقة لتملك القدرة علي حل المشاكل التي وضعت أصلا من أجلها . فكل الإصلاحات تبقي دوما في محلها الذي هو في الأساس حبر علي السجلات والوثائق ولاتحظي بالممارسة ولا المتابعة .

فأي شكل بعد ذلك من الديمقراطية نريد بناءه ،إن الديمقراطية التي نسعي لبنائها هي تلك التي تحافظ علي أصحاب العقول الصغار في الواجهة وتحتفظ ببعض المظاهر الشكلية التي لاتسمح بالتناوب مطلقا . فلايثير كثيرا من العجب أن التاريخ مليء بالقيادات أو من الطلائع البليدة القائدة وغير الواعية للتغييرات الإجتماعية والسياسية التي تجري أمام أنظارها بفعل الإستبدادات العديدة . لايوجد من بمقدوره تخمين إن كانت هذه الإستبدادات لن تهددنا ثانية وثالثة ورابعة …….وإلي أي مدي من الزمن ستظل مشكلة مطروحة لنا .

التساؤل أكثر إلحاحا وجدية مع إستمرار النخب في تبني الإخفاقات في مجال الديمقراطية والحوكمة والتصفيق المذل لها. فلا تزال الأغلبية تحتفي بمسار التراجع الذي يقوده محمد ولد عبد العزيز وبأسطع نحو في ثلاث محطات الأولي 2008 في انقلابه العسكري الذي خلف دمارا هائلا للتوافق السياسي حول الأهداف العليا للإنسجام : نظام شرعي شمولي يدعمه الجميع ويهدف إلي حل أزمة التناوب السلمي علي السلطة .

ووقف التوترات الإجتماعية التي تسبب فيها غياب مناخ الثقة في النظام وفي المؤسسات التي ظلت تعمل خارج المبادئ العامة وأهداف الدستور الوطني التي هي الحرية والعدالة والمساواة . خلق نظام يعمل بهدوء وقادر علي معالجة المصالح المتأزمة التي يخلقها عالم اليوم. إضافة إلي الآثار الجانبية المترتبة علي ذلك الإنقلاب: ذبول الهيبة والمكانة العظيمة التي حظيت بهما موريتانيا في المحافل الدولية عقب نجاح مرحلتها الإنتقالية بصفتها وصيتها ،فقد أمست موريتانيا ضيف شرف علي كل مأدبة ديبلوماسية ، وحاضرة في كل المحافل ونموذجا يحتذى في المقالات الرصينة التي تتحدث عن الديمقراطية في العالم الثالث قبل أن تتراءي خيبة الأمل في الأحكام الصادرة في نبرة الكتاب والمفكرين عقب ذلك ، كما خسرت بصفة تلقائية كل تلك الهبات والتمويلات الكبيرة لتعزيز قدراتها الإقتصادية والسياسية تكريما لها علي النجاح .

ولم يتوقف الضرر عند هذا الحد فقد إنهارت الثقة في الأسس والمرجعيات القانونية وذهبت جهود الأيام التشاورية الحاسمة والأولي من نوعها في البلد ، سدي. كما أضحت المنشآت الديمقراطية هي الأخري غير ذات مصداقية ، وعاد الطموح لممارسة السلطة للجيش ، وهو أسوأ ما في الأمر .

لقد أحدث هذا الدمار نارا كبيرة ظلت نخبة الموالاة تتراقص علي ضوئها ناسية أومتناسية أنها ترقص علي ضوء المحرقة التي ستحرق النظام والآفاق في البلد .

أما المحطة الثانية فتتجلي بأسطع نحو في صياغة كافة التبريرات لتحطيم المؤسسات الدستورية ومبدأ فصل السلطات وطمس جميع الإصلاحات وإعاقة عمل المؤسسات الدستورية أي الوقوف ضد فاعليتها ،وتمجيد قدرة الفرد الخارقة القادرة علي صنع المعجزات وقتل سلطان القانون ، فقد عاد القضاء أدراجه مرات إلي الوراء وإنغمس في تصفية حسابات شخصية وسياسية مكشوفة منذ الوهلة الأولي ، كما حافظت “الهابا” علي نمط من التبعية المخل بالشرف حيث منحت قانتين ومحطتين إذاعيتين لمحمد ولد عبد العزيز بالوكالة ولبعض مخبري السلطة والمتعاملين معها للبقاء في مستوي من الحضور .

أما المحطة الثالثة فتتمثل في تحطيم جميع جهود الفرقاء في إعادة بناء الثقة في النظام وفي المسار من خلال الإخلال بالتعهدات والإلتزامات ودفع اللجنة المستقلة للإنتخابات إلي الإخفاق القاتل بسبب التبعية لجهاز الدولة وعدم النزاهة والحياد والعودة بالدولة إلي التدخل السافر في العملية السياسية لصالح الطرف الحاكم بشكل فج وغير مسبوق .فليهنأ الشعب الموريتاني بالعيش عشرين سنة القادمة تحت حكم الطغمة ولتذهب الديمقراطية إلى الجحيم

 

الاعلامي محمد محمود ولد بكار

هل ننتمي حقا لهذا العصر؟ / الولي ولد سيدي هيبه

الساعة السابعة من صبيحة يوم الاثنين 23 دسمبر2013، حطت طائرة الأرباص المملوكة للخطوط التونسية في مطار "قرطاج" الدولي بتونس الذي كان يتباهى يومها بُرجه العالي و يحتفي بمرور أربعين عاما على إنشائه من خلال لافتة عريضة تعلن من أعلى قمته عن ذاك

 التخليد بأحرف بارزة مكتوبة بخط بديع و بلوني العلم التونسي الأبيض و الأحمر. كان الجو باردا و علي أرضية مدرج المطار تلمع على استحياء و في ضوء شمس محجبة أضعف ستار من الغيوم لمعان أشعتها و خفض تلألؤها على صفحة الماء القابع في سكون داخل الحفر الصغيرة في الإسفلت الأسود و تحدث أخبارها بأن سقوط رذاذ خفيف الليلة البارحة أوجدها.

حركة المطار و نشاطه كانا نسبيين، طائرتان في حالة الإقلاع وطائرتان تهبطان. لفقد كان المشهد بهذا الحجم أقل من المعتاد لهذا المطار أو هو على الأرجح دون المتوقع له بالنسبة لعاصمة ذات شهرة عالمية سياحية و ثقافية بامتياز و معروفة بكونها كذلك موطن الكثيرين لا يحصون عددا من الكوادر و الأطر العاملين و الحاضرين بقوة في المنظمات الإقليمية و العربية و الدولية و بكونها بحق أرضية صلبة و مسرحا مفتوحا و ذائع الصيت تقام فيه على مدار السنة مهرجانات و لقاءات و ندوات عالمية ذات طابع تبادلي ثقافي و فني و اقتصادي و علمي. و مع ذلك بدا لي المطار، و الطائرة في وضعية الهبوط، تحفة معمارية فيما وجدته بعد الوصول إلى داخله يعج بالعركة و تتقاسم طابقه العلوي على ما رأيت عديد صالات لاستقبال المسافرين مرتبة و مجهزة بمكبرات صوت لا تكاد تتوقف عن بث الرسائل و شاشات تلفزيونية تعلن باسمرار و على مدار الساعة مواعيد الرحلات القادمة و المنطلقة. و أنا أنظر من النوافذ الزجاجية داخل صالات الانتظار الواقعة في المنطقة الدولية تراءت لي من بعيد في وضعية أفقية مغايرة مدينة تونس كلوحة رسام مبدع بعماراتها الشاهقة و شوارعها العريضة المشذبة الجنبات و بعض أحيائها المتراصة البنايات في دقة معمارية بادية و أخرى بدورها المنتشرة فوق نتوءاتها الجبلية الممتدة في كل الجهات تزينها في ساحاتها العمومية الفاصلة بينها بعض الأشجار الكثيفة و المساحات المعشبة.

لكن على الرغم من الوجه الحضاري الذي بدت عليه الأمور، في سير الحياة على وتيرة تحاول أن تتناسب ووجهها الحديث، فقد ظلت بعض ظلال التخلف ماثلة لا تكاد تخفيها، على حسنها، بؤر الضوء التي تحاول طرد الظلام و فتح المجال لإشراقه نور الحداثة... ظلال تتجلى بديهة في السلوك المتسم عند جل العاملين و القائمين على المطار- بكل لون الخدمات من استقبال و إرشاد و إعلام، إلى يد عاملة بالخدمات في البنية التحتية و الخدماتية - بارتفاع النبرة الكلامية و الشدة و الحدة في الطبع و كذلك في ضعف الصرامة لاحترام الوقت و قلة صيانة الممتلكات العمومية بحيث تبدو آثار الإهمال ماثلة من خلال غياب بعض التنظيم المحكم و في الانفلات من قبضة زمن الإتقان و الوعي المدني الكامل.

و كالإغفاءة في لحظة عابرة سرقت من الزمن خيل إلي أن عجلة التاريخ التونسي أمسكت بيدي وعادت بي إلى الوراء و أنني أرنو إلي مدينة "قرطاج"، التي كانت ذات يوم مستعمرة رومانية قبل أن يحررها بطلها الرمز "حنبعل"، و كما تصفها كتب التاريخ مترامية الأحياء في تضاريس جبالها وأحضان البحر الأبيض المتوسط تداعبها أمواجه السرمدية الممزوج زبدها بغبار ألواح دسر الغزاة عبر العصور و على إيقاع سرمدية حركة التاريخ عبر الحقب.

فجأة غابت عن ناظري هذه المشاهد التي دغدغتني و أنعشت عقلي الفاتر ثم تكشف لي وجه عاصمة بلدي الحبيب التي غادرت مطارها منذ ساعات قليلة عند منتصف الليل. و بدون استئذان مني انهمرت دموع أحرقت خدي بعدما أدمت مقلتي و أذابت قلبي من الحسرة و الألم.. ترى... وجدتني أسائل نفسي:

• من أين جئت إلى هنا؟

• أمن عاصمة حقا غادرت أم من عصر موغل في الحشة و التأخر؟

لكن ذاكرتي التي لا تأبه بالأسئلة تدوس على عقلي فتريني في وضح نهار تونس، على بعد أكثر من ثلاثة آلاف من الكيلومترات، كل تفاصيل مطار عاصمتي.. فوضى المشهد العارمة التي تراءت لي كالكابوس المزعج تحشرها في الزاوية الضيقة للنسيان كل "لاشيئية" المطار. من المدخل إلى سلم الطائرة الجاثمة على المدرج مساحة لا تكاد تتجاوز بضع مترات مربعة، هي مسرح كل عمليات:

• الذهاب و الإياب،

• و التفتيش و الوزن و الشحن،

• و الانتظار،

• و تجمع الداخل و الخارج،

• و الجمارك و الشرطة،

• و ممثلي شركات الطيران،

• و المسافرين و المودعون، و المستقبلون،

• و الحمالين و الباعة،

• و المتوسلين الذين ينتزعون الصدقات بقوة الفوضى.

لا سر يخفى على أحد هنا و لا فوضى تفوت خيوطها على منتبه أو ينجو من متاعبها و سوء منقلبها من هو في عين إعصارها... حقيقة أقل ما يمكن القول عنها، إنها بقدر ما هي ماثلة للأعن بكل تجلياتها و مقبولة عند الجميع بكل أوجهها و أشكالها في تجن على الضمير، بقدرما هي منسجمة تماما مع العقلية المستشرية و السلوك السائد اللذان يمدانها بأسباب الانتشار و التغلغل في كل مكان و بالتجلي و الانحسار شكلا و مضمونا في كل التعاملات و يكيفان القوانين مع متطلبات سيادتها.

و إذْ كانت المرحلة الموالية هي التوجه من تونس إلى اسطنبول بتركيا و على نفس الخطوط التونسية فقد سجلت الرحلة تأخرا زاد زمنه على الساعتين ظل فيهما المسافرون ضيوفا و من أهل البلد سجناء قاعة انتظار في البهو الدولي و هي التي كانت رغم جمال هندستها قليلة التجهيز بمستلزمات الراحة و الاسترخاء، ضعيفة ترتيب ما زودت به، الأمر الذي سرب إلي قلوب المسافرين بعضا من الضجر و الملل.

و تستمر الرحلة و تهبط الطائرة بعد ما يزيد على الساعتين و النصف من الطيران في مطار "اسطنبول" لتتكشف أمام ناظري حقيقة أخرى قلبت عندي موازين التقدير و التقييم و غيرت مدارك الاستقراء و التأويل. طائرات بكل الأحجام و الأشكال يكاد يغطي الرابض منها كل مساحة المطار و يملأ أزيز المحلق منها سماءه. تهبط بأعداد على المدرجات الممتدة في كل الاتجاهات على مرمى البصر في آن واحد و مثلها يحلق مغادرا إلى كل جهات العالم. تعود بي ذاكرتي المعذبة إلى مطار "قرطاج" الدولي فأراه ضئيلا، ثم تقسو علي فتريني عند انتهاء نفق مظلم سحيق مطار عاصمة بلدي، فلا أميز شيئا و ينفطر من الحسرة قلبي و تعاودني في وجداني نوبة ألم الغياب لتخدش في الصميم كبريائي و تذيب عزتي و تسرب إلى عقلي شكوكا متجددة في صحة وجوده على الخارطة.

في المطار و قبل الدخول إلي مدينة اسطنبول بشطريها الآسيوي و الأوربي الذي يفصلهما و يربطهما الجسر المهيب المعلق التاريخي و الاستراتيجي فوق بحر مرمره، وجدت تركيا الدولة و الشعب حاضرة بقوة مرتين:

• الأولى في ثوبها العثماني العتيد من خلال المعمار و الرموز، ثوب من المجد لم تخدشه التحولات رغم عمقها و حدة بعض أوجهاها،

• و الثانية في ثوب الحداثة التي دخلت عصرها بثقة بادية و بتصميم شعب ناطق بأفعال التحول. مدنية طافحة يترجمها سلوك راق في التعامل و انصراف عملي إلى البناء و السمو في صمت المدنية المستحكمة و احتساب الوقت لكل عمل مفيد. لا تكاد تراها الشرطة في شوارعها و الزحام لا تلحظه بل و لا تحسه إلا عند ساعات الذروة و لانسيابية عركة المرور فإنه لا يدوم، و أما الخطاب المدني المتبع فتترجمه لياقة الناس حتى أنه لا يحتاج إلى الترجمة مكلقا. لم نحتج أنا و صحبتي وسيطا لأي أمر طيلة مقامنا، لم نضايق و لم يضع لنا وقت حتى وجدنا أنفسنا في شوارع اسطنبول و كأننا من نسيجها منذ كنا.

محطات ثلاثة لرحلة واحدة لا سبيل بأي منطق كان إلى المقارنة بينها لأن كل مطار عكس وجه البلد على حقيقته و كان فوق ذلك تعبيرا صادقا عن مستوى المدنية لدى أهله بكل أبعاده و أيضا مدى التحام مواطنيه بالبعد الوطني و الغيرة على وجه البلد و عزته.

فبماذا يمكن وصف و تأويل حالة مطارنا و كيف تمكن قراءة المسلكيات السائدة بداخله؟ و هل حالته التي عليها إلا المرآة العاكسة للضياع الذي يطوق أهل البلد و هم لا يشعرون و في انفصامهم عن الواقع من حولهم متمادون؟

إذا لم يكن ممكنا تأويل ذلك بمستوى التخلف و ضعف الخلفية التاريخية و استحالة الالتحام بالعصر فماذا يجب إذا أن يرتكز عليه وجوب التغيير؟

و إن سلمنا بمنطق المقارنة المجردة من التعصب الأعمى و الجمود الفكري أو لسنا نبدو بحق محشورين بركن قصي في مجهول من الكرة الأرضية لا سبيل فيه للمدنية و روافدها البناءة إلى عقولنا و تصرفاتنا.

الخطوة القادمة تجريم "حماس": عبد الباري عطوان "

حرب السلطات المصرية على حركة الاخوان المسلمين تزداد شراسة، فلم تكتف باعلانها "جماعة ارهابية" بل اغلقت صحيفتها (الحرية والعدالة)، ولاحقت اعضاءها، وتعقبت مصادر تمويلها وجمدت اموالها، واعتبرت كل المنظمات والجمعيات المنبثقة عن التنظيم ارهابية ايضا، وستحاكم قادتها المعتقلين كارهابيين بما في ذلك الرئيس المنتخب المعزول محمد مرسي.

الفريق اول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع وقائد الجيش، والحاكم الفعلي للبلاد اكد امس "ان مصر ستقف صامدة في مواجهة الارهاب" وانها قادرة على العبور الى "الاستقرار"، وذلك اثناء حضوره حفل تخريج دفعة جديدة من ضباط الصف. من يتابع حملات التحريض التي تشنها الصحافة المصرية ضد حركة الاخوان واستخدام كل انواع القوة ضدهم يخرج بانطباع مفاده ان مواجهات شرسة قادمة قد تتطور الى حرب اهلية دموية، لاننا نعتقد ان اعضاء الحركة، والمتطرفين منهم على وجه الخصوص، وهناك الالآف منهم، سيستسلمون لحرب الاجتثاث التي تواجهها حركتهم، في ظل توفر السلاح والمال والدعم الداخلي والخارجي. فاذا كان كل من ينتمي الى حركة الاخوان ارهابيا، وسيواجه عقوبة سجن تصل الى ثلاثين عاما، فان على السلطات المصرية ان تبني معتقلات وسجون مفتوحة، في الصحراء لاستيعاب ملايين من اعضاء الحركة كما فعلت نظيرتها الجزائرية بعد الانقلاب على صناديق الاقتراع عام 1991، وهو الانقلاب الذي فجر حربا اهلية استمرت عشر سنوات ادت الى مقتل 200 الف انسان، وهذا قطعا ما لا نتمناه لمصر او اي دولة عربية اخرى.

مصر تتحول الى دولة بوليسية تطبق الاحكام العرفية دون اعلان رسمي، وهذا يعني وبكل بساطة، ان ثورتها السلمية وؤدت، والانجازات التي حققتها تبخرت، وباتت البلاد تحكم بالحديد والنار، وهذا النهج من الصعب ان يؤدي الى الاستقرار وانما الى المزيد من عدمه، فاذا كانت حركة الاخوان المسلمين ارهابية تقف خلف احداث العنف والتفجيرات، وهو ما لم يتم اثباته قانونيا حتى الآن، فهل جماعة السادس من ابريل التي تعتقل السلطات ثلاثة من ابرز قياداتها، لانهم احتجوا على غياب الديمقراطية وحريات التعبير، وانتهاك حقوق الانسان جماعة ارهابية ايضا؟ الثورة في مصر التي تتعرض حاليا لعملية اجتثاث قامت من اجل العدالة والمساواة وحكم القانون وصناديق الاقتراع، وانهاء الدولة الامنية والبوليس السياسي، ولكن ما يجري حاليا يشكل نقيضا لكل هذه الاهداف والصموحات للاسف. بعد اعلان الحرب على حركة الاخوان، واعتقال قادة حركة السادس من ابريل، ستكون الخطوة المقبلة حتما الصاق تهمة "الارهاب" بحركة "حماس" لانها حسب السلطات المصرية تنتمي فكريا الى جماعة الاخوان المسلمين وهذا جزئيا صحيح، ولكنها لن تقدم على فعل الشيء نفسه تجاه الحركات الاخوانية الاخرى في دول مثل الاردن والعراق وتركيا وتونس مثلا، لان السلطات المصرية لا تستطيع الوصول الى هذه الحركات وخنقها مثلما تفعل مع حركة "حماس" في قطاع غزة، وستعتبر خطوتها تدخلا في شؤون داخلية لدول اخرى. مصدر امني مصري مسؤول اكد هذه النوايا وقال ان من اهداف اعلان جماعة الاخوان المسلمين المصرية حركة "ارهابية" هو الضغط على حركة "حماس" ووضعها اما خيارين: اما الانفصال عن جماعة الاخوان او اعتبارها هي ايضا حركة "ارهابية" ولا نعتقد ان "حماس" سترضخ لاي من الشرطين، وحتى لو رضخت، ستظل موضع شك، ثم مطاردة الامن المصري. هذا التهديد يعني ملاحقة اي مواطن فلسطيني في مصر لشبهة الانتماء الى "حماس"، والزج به في السجون فيكفي ان يطلق لحيته ليدان بهذه التهمة، وهناك اكثر من ربع مليون فلسطيني في مصر ثم بعد ذلك او قبل ذلك تضييق الخناق على اكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وبصورة اكثر شدة مما هو عليه الحال الآن، وربما قصف مقار الحركة اسوة بما تفعله الطائرات الاسرائيلية. كثيرون يختلفون مع حركة "حماس" في العديد من معتقداتها الفكرية، ويؤخذون على حكومتها ارتكاب اخطاء كبيرة في ادارتها لقطاع غزة، ولكن هؤلاء او معظمهم يعتبرونها حركة مقاومة اوجعت كتائبها الجهادية وعملياتها العسكرية الاسرائيليين المحتلين، وتصدت لعدوانهم على قطاع غزة اكثر من مرة برجولة نيابة عن الامة بأسرها وقدمت آلاف الشهداء. حركة "حماس" حركة مقاومة فلسطينية، اختلفنا معها او اتفقنا، وتتواجد حاليا على ارض فلسطينية، وجميع الانفاق التي كانت السلطات المصرية تعتبرها مصدرا لتهريب السلاح والمقاتلين الى صحراء سيناء جرى تدميرها، ولا تمر ذبابة عبر معبر رفح دون موافقة ومعرفة رجال الامن المصري، فلماذا كل هذا العداء، ولماذا كل هذا التحريض الاعلامي الذي يتحول تدريجيا الى سياسة رسمية؟ لا نفهم، ولا يمكن ان نتفهم، هذا التغول الرسمي المصري ضد اشقاء تربطهم بمصر علاقات تاريخية، ويعتبرونها الحاضنة الام لهم، وقضاياهم المصيرية، فاذا كان هناك اناس اجرموا في حق مصر وتمت ادانتهم قضائيا فنحن مع الحاق اقصى العقوبات بهم، لكن ما نرفضه هو "التعميم" وتجريم اكثر من مليوني فلسطيني بتهمة الارهاب دون ادلة واثباتات موثقة. لا نريد، بل لا نتمنى، ان تقف السلطات المصرية في الخندق نفسه مع اسرائيل العدو الاول لمصر، والامة الاسلامية بأسرها، وتعلن الحرب على حركة مقاومة تواجه القصف والحصار وتتوقع اجتياحا اسرائيليا لاجتثاثها في اي لحظة، مصر التاريخ والحضارة ومواجهة الاعداء الغزاة اكبر من هذا واعظم. لا نعرف من هم المستشارون الذين يقدمون النصح للقيادة المصرية، ولكن ما نعرفه ان هؤلاء باستشاراتهم هذه يقودون مصر الى طريق مجهول مليء بالمطبات الوعرة جدا للاسف الشديد، ويعرضون جيشها لمعركة ليست معركته ولا يجب ان تكون.

كُتاب موريتانيا أحمد أبو المعالي أحمد فال ولد الدين أحمد سالم ولد يب خوي أحمد ولد جدو أحمد عيسى ولد يسلم أحمد ولد محمد الحافظ أحمد ولد السالم أحمد ولد محمد المصطفى أحمد ولد محمدو أبو داوود أحمدو ولد الوديعة

في العادة يسأل الفقراء رئيسهم أكثر من هذا، لكنني هنا أسألكم دقيقة حين تضرب في أربعين يكاد يكتمل ذلك الوقت الذي قضيناه في الزحمة ننتظر مغادرتكم مطار انواكشوط الدولي سيدي الرئيس تم توقيف السيارات عند ملتقى الطرق الواقع أمام مفوضية امن الطرق لينسد الطريق بمختلف اتجاهاته، فامتد الطابور امتدادا طويل لأن هذه الطرق تكاد تكون الوحيدة المؤدية إلى مراكز العاصمة من مستشفيات وأسواق وإدارات... توقف المهندس والطبيب والإداري بائع البسيط والصحفي ووو

توقفت السيارات أو أوقفت إجباريا لا لزحمة المرور أو عجز "التجمع العام لأمن الطرق" عن تنظيم السير على عادته، وإنما بانتظار أن تغادروا المطار عائدا إلى القصر الرمادي، (بعيدا عن أحياء الترحيل) ولا يراودني أدنى شك أن من بين تلك السيارات من تحمل مرضى وأصحاب حالات خاصة وأخرى مستعجلة... ضاع منهم أو ضيع منهم كل هذا الوقت كما ضاعت مصالحهم أو كادت ، بانتظار أن يمر رئيس الفقراء في مشهد (احتفالي) تهكمي واستفزازي..، في آخر نوع من السيارات المصفحة ومحاط العديد من الإجراءات الأمنية التي يبدوا أنها مشددة، واللصوص يعيثون ليل نهار بمساكن الناس ومحالهم ومختلف ممتلكاتهم...

فيما كان البعض قد اضطر من طول الانتظار لتوقيف تشغيل سيارته حتى لا تضيع قطرات لبنزين التي لا يمكنه أن ينسى كيف حصل عليها لطول معاناته من أجل ذلك، وقد ارتفعت درجة حرارة سيارات البعض، واضطر البعض الآخر للمغادرة مشيا على الأقدام... وقد أرادوا من الخروج في وقت مبكر الوصول في الوقت المناسب إلى أماكن أعمالهم ومهامهم الخاصة والعامة ومنها المستعجلة وغيرها...

هنا سيدي الرئيس لن أعيب على اللصوص وهم من يسجن ويعاقب على سرقة (غاز أو دراعة أو حذاء ...) ولا يعاقب كبار المسؤولين على نهب المال العام وابرام الصفقات المشبوهة ، حتى ولو تم الكشف عنها يتم التعتيم عليها في بداية الطريق، لتكون عملية لكشف مجرد دعاية وتلبيس على أشياء أخرى أكثر خطورة...

سيدي الرئيس ، تخرجون باتجاه مهام محددة وفي وقت محدد..، لكننا معشر الفقراء نذهب تائهين في ارض الله نبحث عن رزق الله، معظمنا عاطلون عن العمل، ومنا المرضى نتيجة الظروف السيئة والوضعية العامة لبلد يعيش أصعب ظرفية اقتصادية وتعليمية وصحية.. في تاريخه، في مفارقة غريبة حيث يمتلك كل المقومات اللازمة ليعيش كل واحد من هذا الشعب القليل الفقير في منتهى الرفاهية، أما من الناحية العلمية فلا يفوتكم أن أجدادنا بالأمس القريب كانوا يسمون الشناقطة رمزا للعلم والإباء والشهامة

سيدي الرئيس لن أطيل عليكم "وأهل مكة أدرى بشعابها " غير أني أود لفت انتباهكم أن الوضع ليس بخير وأن المواطن البسط يعيش منتهى التذمر والاستياء من وضعيته المعيشية  والصحية الصعبة ...

كما أخبركم أنني لست من المعارضة حتى لا تنسبوا إلها هذه النبرة التي أفرزتها الوضعية آنفة الذكر..،  كما أنني لسمت من الموالاة حتى لا تنتظروا من التصفيق على الباطل وقرع الطبول على الكذب والنفاق... وانتظرون في كتابة غاضب تتناول  "(مستشفياتنا) مجازرنا اللانسانية"

المسار الحانوتي 2 الدكتور الشخ ولد حرمة بابانا

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين عليه توكلت و إليه أنيب
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه
 
نحن والمسار الحانوتيّ (الحلقة الثانية)
بقلم/ الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا
نواكشوط في 25 نوفمبر 2013
قال الله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}. (التوبة).
 
مما يروى بكثرة من قصص الرجل الصالح حمدن رحمه الله.. أنه قام ذات مرة ليحلب الغنم، فحمل "التاديت" وأخذ برجل كبش، فقيل له : يا حمدن.. هذا كبش لا يمكن أن تحلبه.. فرد بلغته ذات الحمولة المعروفة "فقط.. لتدرك النعاج أنني قادم لحلبها".
 
قبل أن أبدأ هذه الحلقة، أطمئن من يهمه الأمر أنني سأرد، ولو ردا عابرا، على التساؤلات العامة الجوهرية التي طرحت في سياق الحلقة الأولى من هذه السلسلة..
لقد رأيت ما كتب من التساؤلات الكثيرة عن سر هذا المنعطف الذي اخترته، وعن توقيته.. ولماذا أعاكس التيار وقد تحول إلى إعصار، و في ظل الزعم بأن المعارضة تلاشت وأنها لا توجد اليوم في أحسن مواقعها عبر تاريخها؟ إذا على من أعول في هذا الدرب الجديد، وكيف أتجاوز ما أسماه البعض صورتي السابقة في النظام.. باعتباري حرقت جميع مراكب العودة؟
أولا: لا أظن مقامي بـ"حانوت أدويره" قد خلق لي حالة تألق، وإن كنت أصلا لست من هواة التألق، ولم أضعه في أولوياتي ضمن ما أتصوره خدمة عمومية تعبدية، خالصة لله تعالى و خالية من الحظوظ الذاتية، أقدمها لوطني وشعبي. مع أنني في كل محطة من حياتي السياسية كنت أسمع من يقول لي إنني أحرقت مراكب العودة واحترقت! باختصار شديد لا أظن أن في السياسة مراكب تحرق.. وعودة مستحيلة.. فمراكب الحق لا سبيل لحرقها، و العودة على متنها من ظلمات الوهم و الغي و الباطل إلى مواطن الحق الساطعة  فضيلةٌ ما يُلَقاها إلا من نور الله بصيرته، و اجتباءٌ    {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة). و لنا في أبينا إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} (التوبة).
ثم إن الشجاع الحقيقي أو السياسي الفعلي هو من لا يرهن نفسه لأشياء صغيرة، وبالتالي يمكنه اتخاذ قراره في كل وقت لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. و إذا كان الخطأ فطرة  بشرية فإن خير الخطائين التوابون. وفي هذا المقام  فإني أعلن توبتي في ما فرطت في جنب الله قولا أو عملا، إفراطا أو تفريطا، قصورا أو تقصيرا. راجيا أن أكون من "الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم. ومن يغفر الذنوب إلا الله و لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و نعم أجر العملين" (آل عمران) .  
إعلان التوبة هذا موجه بعد الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، إلى إخوتي في المعارضة لما قد صدر مني حينا من الدهر من ما لا يليق بمقامهم الشريف، دفاعا عن قناعة تبين لي لاحقا زيفها إذ كانت مؤسسة على مغالطات و دعاوى تضليلية.
ثانيا:أنا لا أعتمد على ما تعرضه ساعات الآخرين، ما دمت لم أضع في ساعتي سوى بوصلة ضميري.
وإذا كنت احترقت، كما قال أو تصور البعض، فإنهم قد يكتشفون لاحقا أنه احتراق من النوع المفيد.. ليس احتراق تواطؤ و لا خيانة و لا تبعية عمياء. فالمحرك الذي يشتعل هو الذي يتحرك.. والمحرك الذي لا يشتعل لا يبشر عادة بخير. هذا شيء يعرفه الميكانيكيون.
وللمحايدين و أصحاب القلوب الصافية، و قليل ما هم.. أربأ بهم أن يتصوروا أنني اتخذت هذا الموقف كردة فعل على فقدان وظيفة أو امتيازأنا بفضل الله في غنى عنه. ولم أغذي يوما جسدي بحرام و لا بالمال العام. "لقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون"؟.. و ما أسهل الحصول على ذلك المبتغى لو كان هو فعلا ما يحرك قلمي، أو يغير موقفي، وأنا أتلقى عروضا مفتوحة بوظائف مهمة في الخارج.
لقد دخلت في حلف سياسي على أساس برنامج إصلاحي استهواني و اقتنعت به لمثاليته، (و من خدعنا في الله انخدعنا له). دخلته كشريك فاعل لا أجير و لا إمعة مفعول به.. دخلته عاملا وفيا و نزيها، وناصحا أمينا و موجها بصيرا في كل أمور الدولة.. وكان ردي على الشقيقة الجزائر (وأنا وقتها عضو في الحكومة)، رغم ما أكنه لهذه الدولة العريقة من فائق الاحترام و التقدير، دليل على أنني لا أعبأ بالتبعات الشخصية لمواقفي المؤسسة على قناعتي، خاصة إذا تعلق الأمر بالمصلحة العليا للوطن أو المساس بسيادته و هيبته. و سأعود لهذا الموضوع بالتفصيل إن شاء الله في الوقت المناسب.
أمَا وقد أكدت لي التجربة أن المطلوب لا يتعدى حصر مصالح الأمة في جيب شخصي، فعودوا إلى ما فعل السابقون في الإسلام بأصنامهم بعد أن نحتوها وكانوا يمسحونها ويزينونها كل يوم.
أعود للأمور الجوهرية والتي يمكنها التنوير حول السبل التي يجب أن نسلكها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من "حانوت أدويره" وحتى لا نكرر نفس موقف التعاطف مع "الوكاف" ونشارك في جريمته بإعلان تضامننا اللامشروط معه.
نعم لقد خرجت أبتغي سبيل الهداية الوطنية بعد أن اكتشفت أنني كنت في جوف هبل.. وأنه يستحيل تحويل هيكله إلى مسجد.
وأنا الآن خارج هيكل الصنم، والذي لا يملك من الصنم عفته، على حد تعبير المتنبي، فإنني لست مستعدا لتضليل الرأي العام الموريتاني بطرح أنماط شعبوية افتراضية للتغيير الذي أصبح أمرا ضروريا بل حتميا و مصيريا، و قد هوى بنا سوء التسيير الأحادي المزاجي و التدبير الارتجالي و الذوق الرديء إلى الدرك الأسفل من الانحطاط الذي ليس بعده إلا التلاشي و التفكك. لا قدر الله. علينا كنخبة سياسية أن نتجاوز وهمية ما يسوق كحلول مثالية، إلى الواقع المرّ الماثل للعيان، والذي يؤكد استحالة التناوب السلمي على السلطة، بعد أن تحولت مؤسسات الجمهورية إلى مغلفات بضائع محشوة بالديناميت في الوطن / الحانوت.
إنني هنا أتساءل عن أي ضمانات يمكن أن تتوفر في موريتانيا للتبادل السلمي على السلطة عن طريق الانتخابات، أي انتخابات، يديرها الطرف المنافس. الاستلام لخدر مظهر من هذا النوع يشبه الاقتناع بمشاركة أسماك القرش الأبيض في حفل للسلام. لأنه من المسلمات البسيطة أن النظام حال كونه خصما و منافسا لا يمكنه أن يكون حكما عدلا على الإطلاق. هذه المغالطة هي التي أفشلت و أفسدت مشروع الديمقراطية في بلدنا. ويريد أولئك الذين يستفيدون من هذا الوضع أن تستمر الحالة على ما هي عليه موهمين أنفسهم برؤية بعض الورود، مع تمام إدراكهم أنها ورود ذابلة أنبتت بين الأشواك الحادة و تتغذى من مستنقع من سموم لا بارد و لا كريم.
أنا، في هذه الحالة، لست مؤيدا لثورة شعبية، ولا لفكرتها، وذلك لثلاثة أسباب:
الأول أن النظام الحانوتي زرع ألغامه بين نسيجنا العرقي والمجتمعي، و حتى الجهوي ليستغلها ساعة الاضطرار وفق القاعدة الشمشونية "علي وعلى أعدائي".
والثاني: أنني لست مقتنعا، إطلاقا، أنه بات لدينا وجود لحالة "وعي عمومي"، من النوع الذي يفرض التغيير الديمقراطي السلمي، رغم وجود نخب متميزة وآلاف الشباب المتعلم الواعي المستعد للتضحية، والمؤمن بقيم الحرية والتنمية، الشباب الحي الذي يحترق بهموم وطنه وأمته وبواقعها البائس في هذا البرزخ المعيشي، الذي تنهب ثرواته من ذهب وحديد وسمك ونفط وغيره، وتروح أدراج جشع و أهواء النفوس الصغيرة السفيهة.
والثالث: أن الثورات بشكلها العامي الراهن أصبحت مطية الآخر (الداخلي              و الخارجي) للقضاء على الدولة المركزية، ونتائج الربيع العربي الكارثية كفيلة بأخذ الدرس.
هكذا لا يكون أمامنا فرصة للربح من أي مغامرة تغيير غير محسوبة في بلد تسوده الأمية والعصبية القبلية والعرقية القاتلة.
هنا لا أرى الآن، كما لم أر من زاوية الضفة الأخرى حيث كنت، أن الدعوة للثورة، أو لانتخابات حتى لو كانت توافقية وشفافة سيكون حلا للأزمة التي تعيشها البلاد. لأن الهوة عميقة و أدوات الفوضى أكثر بكثير من أدوات الثورة  في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية، فلا يمكن تصور نتيجة إيجابية لشفافية تقنية للانتخابات، وليس سيناريو رئاسيات 2007 ببعيد.. في تلك الانتخابات الأقل تزويرا في تاريخ البلد، صحيح أن الرئيس وقتها لم يخلف نفسه، لكن النظام لم يفقد الحكم، و هو من دعم ترشحه و ضمن نجاحه  و هو من خلعه.
للأسف الشديد فإن ما نعيشه منذ ديمقراطية "ميتران 1990"، هو أن نخبة واحدة تتصارع بجناحين. وهذا ليس خطأ شائعا نصوبه هنا، بل هو الحقيقة المرة التي عمت بها البلوى.
لا يعني ذلك أن زعماء المعارضة التاريخيين، ومن بينهم مثقفون ووطنيون قطعا، انطلت عليهم الحيلة فوجدوا أنفسهم مرغمين على السير في الجلبة، بل لعله عائد إلى إتقان لعبة النفق البهلواني وإلى رَيْعِية التفكير السياسي الجيبي عند البعض، الذي هو تفكير آلة حاسبة في أحسن الأحوال، بدلا من تفكير النظرة الشمولية لروح الأمة وعائداتها.
أعني هنا بالمعارضة التاريخية كل فريق الإصلاح من خارج النظام ومن داخل دوائره.
في هذه المرحلة، يبدو وكأن المعارضين التاريخيين استسلموا للأمر الواقع، أو بدا لبعضهم بألعاب الحيل البصرية أنه أمر واقع، فقرر البعض منهم اختيار رمزية الموقف التاريخي بدل الاستمرار في عبثية تشريع مرحلة بعد أخرى، فيما آثر البعض الآخر الشعار التليد "خذ وطالب".
تظهر هذه الصورة القاتمة، وكأنها قدر محتوم يطبق على أنفاس التغيير ويمنع مضغته في رحم أحلام الأمة أن تتحول إلى عظام يكسوها اللحم.
ولكن هل الصورة نفسها قاتمة، أم الأجواء من دونها هي الملوثة وغير الصافية بحيث لا تسمح لنا برؤية طريق التغيير من خلال صورة الواقع؟
إن واقع موريتانيا في 9 يوليو 1978 لا يختلف عن واقعها الآن عند البحث عن الكأس المقدسة للتغيير.فجميع دوافع التغيير التي كانت قائمة آنذاك هي نفسها قائمة الآن بشحمها ولحمها ، بل لعلها أدهى.
 
لنستعرض هنا كيف كان التغيير يتم في موريتانيا.. الأمر معروف، لكن المراجعة قد تفيد:
 
أمام حالات الانسداد و الأزمات التي مرت بها البلاد و في غياب وعي مجتمعي يفرض التغيير و التناوب السلمي على السلطة، لم تجد النخب المدنية وقتها,ـ اختصارا للطريق ـ بديلا عن التوجه إلى الجيش، من أجل تحقيق هذا الهدف. هكذا كان السياسي الموريتاني الوحيد الذي فهم لعبة "اختصار الطريق" هذه هو أخي و صديقي محمد يحظيه ولد أبريد الليل أطال الله بقاءه.. وإن عانى هذا المفكر الكبير من "حظ النرد".. ففي كل مرة كان ينثر فيها كنانة النرد العسكري، كانت حبة النرد الأقل أهمية هي من يصعد إلى المشهد. فالذي كان يحدث هو انقلاب داخل الانقلاب: انقلاب على السلطة القائمة للخروج من مأزق النفق المسدود، و انقلاب على مشروع التغيير في زعم غياب نخبة سياسية ذات مصداقية و مهيأة لاستلام و ممارسة السلطة. لذا لم يستفد البلد من الانقلابات المتتالية لأنها لم تحدث التغيير المنشود و لم تكن نتيجتها يوما سوى استبدال شخص بآخر.
هكذا ومنذ العاشر يوليو 1978، وطوال تاريخ الدولة الموريتانية، لم يكن التغيير إلا عن طريق المؤسسة العسكرية و منذ ذلك التاريخ و إلى يومنا هذا، و الجيش الموريتاني يمارس الحكم تارة بمواثيق و لجان عسكرية و تارة تحت يافطة من شعارات الديمقراطية (الدستورية، التعددية، الاقتراع...)
 
هذا التغيير يتم في غالب الأحيان عن طريق دائرة الصف الأول، وهي عادة دائرة صغيرة، من المفترض أن لا يسمح بوجود أبواب و نوافذ فيها. لكن عكس ما هو شائع، ورغم الفقدان الظاهري للأبواب والنوافذ في كل مرحلة، فلا يمكن بأي حال من الأحوال غلق منافذ التغيير من داخل الجيش و التي تمكن من ربط جسور تواصل بين أفراد من الجيش و أفراد من النخبة المدنيين القادرين على زرع قناعة التغيير. بيد أن هذه الدائرة لا تتحرك عادة إلا حين تقتنع و تتأكد أن كيان الدولة أو أمنها و استقرارها أصبح مهددا أو أنها مستهدفة في وجودها و أن عليها التضحية بفرد لإنقاذ المجموعة.
أما دائرة الصف الثاني، فهي التي تحركت في 8 يونيو 2003، وهي دائرة تصعب السيطرة عليها، بقدر ما أن نتائج تحركها تعتمد أيضا على مستوى من يؤطرها نظريا على فكرة التغيير.
 
الواقع أن النخب السياسية وقعت على مر الزمن في خطئ تاريخي لعدم ربطها لأي صلة بالجيش و اعتباره عدوا و مجرد حارس باب معقل الحكم الفردي بدل اعتباره حارس و راعي مصالح الأمة  و الركيزة الأساسية للدولة.
لا بد من تصحيح هذه النظرة الخاطئة  و الصورة الظالمة لمؤسستنا العسكرية. فيها كما في غيرها من معظم جيوش العالم نخبة من الضباط الأشراف الأكفاء الأذكياء الغيورين على وطنهم أمنا و استقرارا و سمعة و حضارة و تاريخا، المستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيله.
إن الإيعاز للجيش، كما نسمع في بعض المناسبات، بمقايضة موقفه من الديمقراطية مقابل تحسين وضعيته ماديا ومعنويا أمر يدعو للضحك.. أن النخبة الديمقراطية، الواعية، المتعلمة داخل الجيش تدرك تماما عبثية التغيير الانتخابي في ظل المنظومة الحالية و هي على مستوى فهم أن الديمقراطية هي أقوى سلاح لدى الجيش ولدى الدولة.. و أن التغيير لا يمكن أن يكون بحجم استبدال شخص بآخر، بل وفق برنامج غير تقليدي عن المصالحة والتحرر والتنمية..  هذا الوجه المشرق و المشرف لجيشنا الوطني دائما ما يتم  اختطافه بمؤامرة سياسية مدنية تقليدية. فكلما فشلت النخبة السياسية في أداء دورها ألقت باللائمة على الجيش الذي هو في نفس الحين أول ضحية للأنظمة الاستبدادية الفردية القبلية، ولمساراتها الحانوتية التقسيطية. لكن  كتب عليه أن يبقى صامتا من غير خرس. 
إن موريتانيا ليست بحاجة إلى انقلاب عسكري عاشر بمفهومه المكيانيكي و الذي لن يكون سوى البدل الأعور الذي لن يأتي إلا بما هو أسوء. إذا أين المفر؟ أين السبيل إلى التغيير السلمي الذي يتوق إليه هذا الشعب المسكين؟ كيف القضاء على هذا البعبع الذي يتولد من نفسه و يقضي على كل المحاولات الجادة للإصلاح؟ إن ما أشرت إليه سابقا من عبثية التغيير الانتخابي في ظل المنظومة الحالية لا ينفي عدم القدرة على استغلال الوضع من زاوية أخرى يمكن أن نطلق عليها "الانقلاب الانتخابي" الذي هو عملية سياسية صرفة، تتطلب جاهزية و احترافية سياسية كبيرة.
 
إننا بحاجة لإعادة قراءة تاريخ الآباء المؤسسين للحضارات العظيمة، وحتى للدول التحررية في القرن العشرين القريب منا جدا.. وهو أمر مفيد لأي نخبوي سياسي يريد الخروج فعليا من لعبة النفق البهلواني. كما يجب أن نتعلم ولو القليل من فن أقصر الطرق و البدائل.. فقد أنفقت أمريكا ملايين الدولارات لحل مشكل علمي عويص واكتشاف قلم يكتب في الفضاء لتمكين رواد الفضاء الأمريكيين من كتابة أبحاثهم داخل مركباتهم، ولكن روسيا حلت المشكلة بسهولة من دون إنفاق دولار واحد لأن رواد الفضاء الروس استخدموا قلم الرصاص.
 
إن للتغيير في بلدنا أكثر من مبرر، لكن إن من دواعيه الملحة هو المنعرج الاستراتيجي الخطير الذي اتخذ فرديا، وبالوكالة عن البلاد دون أن تعلم به أخص دوائر الدولة وأكثرها اطلاعا. و تماما كعدم شعور الكائنات بحركة دوران الأرض، مرت موريتانيا خلال الفترة الوجيزة الماضية بمنعطف شديد لم يشعر به أحد رغم أنه حاد جدا، وسيضعها على سكة مستقبل ملغوم. ما في ذلك من شك.
وهنا علينا أن نجيب عن سؤالين مركزيين:
أولا، هل يمكننا التذاكي إلى حد أننا نستمر منذ أربع سنوات في خداع شركاء الدم والتمويل.. أهلينا و إخوتنا في دول الخليج... ونحن في الحقيقة لا نخدع سوى أنفسنا بالتمكين لإيران في المنطقة، موهمين الحلفاء أننا نخدمهم بعلاقتنا مع طهران، وبأننا عين لهم في الداخل هناك.. والواقع أننا سمحنا لإيران بتمرير أموالها ونشر فطر عقيدتها داخل حقلنا وحقول الجيران.. ومن يجرؤ اليوم على السؤال عن عدد الشيعة في موريتانيا وما يدور في حسينيات نواكشوط، وما يخطط له "حوثيو موريتانيا" هنا، وفي المجتمعات المجاورة التي ينخرها الجوع والفقر والأمية وهشاشة العقيدة، وهي تربة مثالية لاحتضان العقيدة الشيعية في بعدها الصَّفَوِي.
أما السؤال الثاني: ما فائدة عودتنا للانغماس في مستنقع النزاع حول الصحراء.. وهل بإمكاننا السباحة في وحل آسن متشابك إقليميا ودوليا لم تخرج منه الجزائر بكل مكانتها المعنوية والمادية منذ أربعة عقود وحتى الآن؟ 
لماذا نتصور أن بإمكاننا المساهمة في استنبات ربيع صحراوي، ونستلم الأوامر التي تحدد دورنا في اللعبة القاتلة القادمة.. لعبة احتساء كؤوس السم.
ما يفوت البعض هنا أن الحرب الماضية في الصحراء إبان السبعينات كانت "حرب تغيير حدود"، أما الحرب القادمة فستكون يقينا "حرب تغيير وجود".. في الحقيقة تكفي "شُكوة واحدة" بتعبير ولد بونا.
إن الأمم التي تكون مواقفها ومصالحها الإستراتيجية رهينة هوى متبع و مزاج شخصي ارتجالي، غالبا ما تنهار ديمومتها وتتكبد خسائر كبيرة.. وللحيلولة دون ذلك يلزم، وبسرعة، أن نتحرك، وفي كل الاتجاهات أفقيا وعموديا، من أجل إحداث التغيير لتلافي الكارثة.. التي رصدتها عين "يمامية".
يتواصل