لعيبُ فِينا وفي علمائنا/يحيى ولد سيدي أحمد
- التفاصيل
-
10 آذار 2015
- نشر بتاريخ الثلاثاء, 10 آذار/مارس 2015 22:12
مَن لنا بعلّامة تقي زاهد ورع كالحاج ولد فحفُ
متّع الله به كما متّع بالعلّامة محمد الحسن ولد أحمد الخديم، ومن يحذو حذوهما من العلماء الزهاد؟
يقول ذو النون المصري: كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركا لها، فاليوم يزداد الرجل بعلمه للدنيا حبا ولها طلبا. وقد كان الرجل ينفق ماله على علمه، ويكسب الرجل اليوم بعلمه مالا. وكان يرى على طلب العلم زيادة في باطنه وظاهره، فاليوم يرى على كثير من أهل العلم فسادٌ في الظاهر والباطن.
وهذا، لَعَمْرِي، لازم لطلبة هذا الزمان، بل لكثير من العلماء، وخاصة علماءَنا نحن الموريتانيين، وليس الخبر كالعيان!
فلماذا ننقم على صاحب مقال" بلاد شنقيط مقبرة العلم والإيمان" ما قاله في هذا الصدد؟!
ولماذا نصرّ على "كمال" علمائنا؟
وما ذلك إلا من قبيل تعذّر سلوك طريق الحق علينا لِما استحكم في قلوبنا من علاقات الخلق، فقد قيل: التعمق في الباطل قطع لآمال الرجوع عنه، فكلما كان بُعد المسافة عن الحق أتم، كان اليأس من الرجعة ألزم.
وأعظم الوبال علينا اغترارنا بحالنا، واستحساننا لسيء أعمالنا، واعتقادنا أننا سالكون سبيل النجاة في الدار الآخرة ونيل الثواب فيها، بل واعتقاد علمائنا أنهم هم الذين حازوا الرتبة الشريفة والمناقب المنيفة التي اختص بنيلها العلماء الذين هم ورثة الأنبياء!
ومن دقيق المفاسد المترتبة على ذلك وقوع الاغترار للجهلة بظاهر حالهم، فإنهم يشاهدونهم قد حازوا من رتب الدنيا ما أرادوه، ويوهموا أنهم نالوا شرف الآخرة بما أفادوه واستفادوه، فيحملهم ذلك على الاقتداء بهم في طلب العلم إن كانوا ممن فيه قابلية ذلك، فيقعون في ما وقعوا فيه من المهالك.
ويؤديهم ذلك إلى محبتهم وموالاتهم أربابا يسمعون منهم ويطيعونهم في أوامرهم ونواهيهم، يخرج بهم استحسان حالهم إلى الداء الدفين، وهو مسارقة طباعهم الدنيئة وأخلاقهم الرديئة، فإن نفوس العامة قابلة لذلك مهيئة له بمنزلة الصبي الذي ترسخ فيه أخلاق آبائه وجبلاتهم ومذاهبهم.
قال رجل لسفيان الثوري: لو أنك نشرتَ ما معك من العلم رجوت أن ينفع الله به بعض عباده وتؤجر على ذلك؟ فقال سفيان: والله لو أعلم بالذي يطلب هذا العلم لا يريد به إلا ما عند الله، لكنت أنا الذي آتيه في منزله فأحدثه بما عندي مما أرجو أن ينفعه الله به، فقد حكي عن بعض الأمم السالفة، أنهم كانوا يختبرون المتعلم مدة في أخلاقه، فإن وجدوا فيه خلقا رديئا منعوه من التعلم أشد المنع، وقالوا إنه يستعين بالعلم على مقتضى ذلك الخلق الرديء، فيصير العلم آلة شر في حقه.
وقد قالت الحكماء: زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة الماء في أصول الحنظل، كلما ازداد ريا ازداد مرارة.
وإن الكثير من علمائنا كلما ازداد علما ازداد شراهة إلى المال بل وشبقا، فينبغي إذَا درء المفاسد بتكميم أفواه هؤلاء بل عزلهم في الحجر الصحي، لأن المفاسد التي تقع لهم في خاصة أنفسهم والمفاسد التي تتعدى منهم إلى غيرهم أكثر، ودرء المفاسد أهم عند العقلاء من جلب المصالح.
أما المفاسد التي تختص بهم فهي تقوية صفاتهم الذميمة وأخلاقهم اللئيمة بما يطلبونه من العلم؛ لأنهم يستشعرون بذلك التوصل إلى جميع مطالبهم الدنيوية على غاية الكمال والتمام، فإذا استشعروا ذلك توجهوا بهممهم إليه، وعطفوا بالجد والاجتهاد عليه، ولولا هذا الاستشعار لم يتصور منهم ذلك.
فإذا حصلوا على شيء من ذلك، وظهرت لهم مخائل وصولهم إلى أغراضهم المذكورة، فرحوا بذلك واغتبطوا به. وكلما ازدادوا علما ازدادوا فرحا واغتباطا بما هم فيه. وهذا الفرح والاغتباط منهم في غاية الذم؛ لأن ذلك متعلق بأسباب الدنيا، وهو بمنزلة السم القاتل الذي يوجب موت قلوبهم وقساوتها وبعدها عن التأثر بالمواعظ والحكم.
وعند ذلك تنتعش نفوسهم وتتقوى صفاتها، وتظهر آثار ذلك على ظواهرهم من التكالب على الدنيا، والركون إلى من هي عنده من أبنائها المترفين، وليس لهم ما يتوسلون به إليهم سوى علمهم، فيحتالون على تحصيل إقبالهم عليهم، وصرف وجوههم إليه، والتنفق عندهم بأنواع الحيل.
ولا يَسْلمون في ذلك من الرياء والتصنع والمداهنة، ويجرهم ذلك إلى أنواع من المحظورات وضروب من العصيان، مع ما يحل بهم في ذلك من الذل والهوان.
فإذا نالوا ذلك أو بعضه حصل لهم مقصود نفوسهم، وتمكنوا من جميع حظوظهم، فخرجوا من الحرية إلى استعباد الأغيار، واستبدلوا بالعلم النافع الجهل الضار.
وقد قال فضيل بن عياض رضي الله عنه: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم، وشحوا على دينهم، وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله، لخضعت لهم رقاب الجبابرة، وانقاد لهم الناس، وكانوا لهم تبعا، وعز الإسلام وأهله، ولكنهم أذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذ سلمت لهم دنياهم، فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك مما في أيدي الناس، فذلوا وهانوا على الناس.
ولله در الجرجاني حيث يقول:
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهمُ هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما
وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل من في الأرض أرضاه منعما
إذا قيل هذا مورد قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما
أنهنهها عن بعض ما لا يشينها مخافة أقوال العدا فيم أو لما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأغرسه عزا وأجنيه ذلة إذًا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في الصدور لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
وقال وهب بن منبه رضي الله عنه لعطاء الخراساني:" كان العلماء قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، وكانوا لا يلتفتون إلى دنيا غيرهم، وكان أهل الدنيا يبذلون لهم دنياهم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم".
وليس هذا بجديد على علماء أرضنا!
ولقد صدق صاحب مقال" بلاد شنقيط مقبرة العلم والإيمان" حين أورد ما قاله ابن بطوطة في رحلته عن قاضي ولاته واتخاذه صاحبة صغيرة في السن، بل وطلبه من سلطان مالي أن تحج معه صاحبته، التي يبدو أنها كانت تحضر مع القاضي في مجلس قضائه!
وما تزال إذاعة الجمهورية" الإسلامية" الموريتانية من انواكشوط تبث البيت الوقح، وموضوعه اتخاذ الأخدان الذي ذكره ابن بطوطة:
تجلاج اعليّ هون حد فمجِ جيتُ لعيالُ
سكريتُ عنُّ غير بعد ثابت ما يولّالُ!!
وفي الطرائف والتلائد في كرامات الشيخين الوالدة والوالد أن سيدي اعمر بن سيدي أحمد التوجي قال للشيخ سيدي المختار الكبير الكنتي:" تنظر إلى أهل القِبْلة ، وعدم الحجاب فيهم ، وموجان بعضهم في بعض، ومع ذلك تحبهم!؟ فقال له الكنتي: نعم!".
وفي رسالة جُنّة المُريد التي كان الشيخ سيديّ الأبييري يحتفظ بها كعِلْقٍ ثمين ويضن بها أن القطر الموريتاني" ليس فيه من يرفع لهذه الطريقة- يعني التصوف- رأسا، ولا من يلقي لسنن السلوك والاستقامة بالا".
وفيها أيضا:" ولا مثل طلبة أهل المغرب الأقصى- يعني موريتانيا- لرقة قلوبهم وصفاء أذهانهم وانفعالهم للدواعي الحقيقة، لولا أن هذه الطريقة- أي التصوف- وعلومها أُمِيتَا من صُقْعِهم، فلا تسمع لها داعيا ولا مجيبا، ولا ترى من عامّهم وخاصهم من يسدد إلى ذلك المرمى سهما مصيبا. ولهذا تراهم وشيكا ما يجيبون الداعي النيرجي- النِّيرج السحر- والمدّعي البهرجي، فينقادون له انقياد الدابة المذللة لسائسها، والرعية المطيعة لرائسها، مع قلة المحصول، وفقد الظفر بالمأمول، فيبذلون له نفائس أموالهم، ويخدمونه كما يخدمون الرؤساء خدمة عمالهم، مع التبجيل الزائد والإجلال المتزائد، ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون".
قال ابن عطاء الله في لطائف المنن:" وربما أغرى الغافلَ من طلبة العلم قولُ من قال" طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله"؛ إذ ليس في قول هذا القائل ما يستروح إليه من طلب العلم للرئاسة والمنافسة، وإنما أخبرهم هذا القائل عن أمر مُنّ به عليه وفتنة سلّمه الله منها، لا يلزم أن يقاس عليه فيها غيره.
وذلك بمثابة من به مرض مزمن في المِعى، أعيى علاجه وضاق عليه خناقه، فأخذ خنجرا وضرب به مَرَاقَّ بطنه، فصادف ذلك المعى فقطعه، فخرج الداء منه.
فهذا لا يستصوب العقلاء فعله، وإن نجحت عاقبته، فليست سلامة العواقب رافعة للعتب عن المُلقين أنفسهم إلى التهلكة، ليس المغرور محمودا وإن سلم.
وقال في موضع آخر: ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر، فقد قال صلى الله عليه وسلم( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). ومثل من تعلم العلم لاكتساب الدنيا وتحصيل الرفعة فيها كمثل من رفع العذرة بملعقة من الياقوت، فما أشرف الوسيلة وما أخس المتوسَّل إليه.
ومثل من قطع الأوقات في طلب العلم ومكث أربعين سنة أو خمسين سنة يتعلم العلم ولا يعمل به، كمثل من قعد هذه المدة يتطهر ويجدد الطهارة ولم يصل صلاة واحدة؛ إذ مقصود العلم العمل، كما أن مقصود الطهارة وجود الصلاة.
ولقد سأل رجل الحسن البصري رضي الله عنه عن مسألة فأفتاه فيها فقال الرجل للحسن: قد خالفك الفقهاء فزجره الحسن فقال: ويلك وهل رأيت فقيها، إنما الفقيه الذي فقه عن الله أمره ونهيه!!
قال : وسمعت شيخنا أبا العباس[ المرسي] يقول: الفقيه من انفقأ الحجاب عن عين قلبه.
قال فرقد السنجي رضي الله عنه: سألت الحسن رضي الله عنه عن مسألة فأجابني عنها، فقلت له: إن الفقهاء يخالفونك؟ فقال لي: ثكلتك أمك فُرَيقِد، هل رأيت فقيها بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكافّ نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم، المقيم على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينبز من هو فوقه ولا يسخر ممن هو دونه، ولا يأخذ على علم علّمه الله حطاما.
من صفحة الباحث على الفيسبوك