حظيت بقراءة باكرة لرواية منينة بلانشيه للكاتب الكبير ومعالي الوزير محمد ولد أمين فور نهاية تحريرها فقد دعاني رفقة عدد من الأصدقاء المتأدبين والمهتمين بالأدب السردي إلى قراءة جماعية لمخطوط
الرواية وقد عدت بعد ذلك إلى هذا النص الجميل مرات عديدة ومازلت أطالعه بين الفينة والأخرى . لاحظت أنني كنت اكتشف في كل مرة زوايا وخبايا قد لا تستوقف إلا من أمعن النظر وتخطى الحواجز الابستمولوجية التي تختم غالبا على بصيرة القارئ المتسرع بغشاوة سميكة قد تمنعه من اقتحام دواخل هذا النص الرائع والملغوم والمطلسم ! لقد أيقظت في هذه الرواية الفريدة لواعج خاصة لما تميزت به شكلا ومضمونا من حرفية عالية صالحت السرد العربي الحديث مع أشكاله الحكائية العتيقة من جهة وركنت من جهة أخرى في أسلوبيتها المبدعة الى زمن روائي ملتو ومتعرج ومتوالد وقد استطاع الراوية التنقل فيه بيسر وسهولة -يحسد عليها- عبر بناء روائي متين. . مهارة أي روائي –بالنسبة لي – تتلخص في مدى قدرته على ملاعبة الزمن ...فالرواية فن دهري بامتياز وهذه الدهرية هي تمام ملكة التصوير والخلق التي تجعل بمقدور صاحبها ان ينفث من روحه على الورق فيخرج منها كائنات مستقلة وحية إلى درجة الضجيج والغلواء والشطط. الزمن الروائي في هذا النص مجموعة أزمنة متجاورة فعلا ...انه زمن الأم منينة بلانشيه تلك الإعرابية التي رمت بها صروف النوى بعيدا عن مضارب القبيلة.. فوجدت نفسها أسيرة حسيرة.. كما كانت قبلها بنات ملك اشبيلية المعتمد ابن عباد حسيرات كسيرات في قلعة اغمات منذ قرابة آلف سنة مما تعدون..! منينة بنت الزعيم مختار الأعيور شيخ قبيلة المناذير دون منازع ....الرجل الأسطوري الذي خسر عينه اليسرى بعد عراك رهيب مع أسد هصور كاد يمنع الناس من ورود منهل ماء في قفارنا الموحشة ...مختار الأعيور البطل-الصعلوك وقاطع الطريق الهمام.. حبيس قلعة تامشكط في حافة افلة حيث تتقابل الصحراء العربية بسافانا افريقيا . منينة بنت الصعلوك مختار هي بكل اختصار الدولة الموريتانية التي من سجنها ستتحول لسيدة المكان الأولى وستتزوج بباتريك بلانشيه آخر حاكم فرنسي ببلاد "البرزخ والسيبة"..وربما يعترض ناقد على أعجمية الاسم الفرنسي (بلانشيه)ككناية لبلد عربي إفريقي مسلم لكنه لن يستغرب ذلك لو تذكر ان تسمية "موريتانيا" نفسها مجرد كلمة لاتينية دخيلة اختارها لنا غزاة وقبلناها على مضض كما قبلت منينة بنت المختار هي الأخرى ان تسمى منينة بلانشيه بعد زيجة استعمارية مثيرة ! يتوالد زمن الأم منينة من اللاوعي أو اللاشيء.. أي من تجاويف دماغ احمد ولد خيبوزي او جوزيف بلانشيه وهو نسل غريب له اب بيولوجي موريتاني ومسلم ووالد فرنسي مفتقد . انه شخص متعدد ومتنافر الهويات ممسوخ ومتألم كما هي دوما البلدان الإفريقية والعربية التي خسرت جراء فاحشة الاستعمار عذريتها ونقاوتها ..ثم مع الغوص في هذه الحالة نكتشف ان تعدد الهويات مصدر مقبول للتصالح والثراء الفكري وليس سببا كافيا للبلوى والسخط. منذ الصفحة الأولى والسطر الأول يجتر الابن – الراوية مصرع الأم في حادث طيران مفجع ويحمل الكاتب الفرنسي انطوان سانت اكسبيري الذي سبق واختلط بزمكان الرواية مسؤولية قتل الأم فيقول : "..في طريق العودة اختل توازنها عند اعتراض غيمة صغيرة لطريقها فتهاوت ..ثم تفجرت فور اصطدامها بالأرض ووجد جناحها الأيمن سليما على بعد كيلومتر واحد من الهيكل المنصهر ولم يتمكن الأسبان الذين هرعوا لإغاثة الطائرة من العثور على خصلة واحدة من شعر أمي ! كل من كان في الرحلة طيارون محترفون أو هواة من أهل الدراية بهذا الفن السماوي الجميل وكلهم كانوا من أصدقاء انطوان دو سانت اكسيبيري.. ذلك ما تشهد به الصحافة الفرنسية والعالمية في سلسلة طويلة من الصفحات الحزينة. كلهم اقتفوا أثره فحلت بهم لعنته. لذلك أتساءل هل دو سانت اكسبيري مسئول أيضا عن قتل أمي؟.." من الواضح جدا هنا ان الإحالة لسانت اكسبيري إحالة مفخخة حيث انها تربط الفاجعة هنا بالفاجعة هناك وتجعل الموت مجرد لعنة او استدعاء من عوالم أخرى وما تحميل الكاتب هنا مسؤولية قتل الأم لكاتب فرنسي مشهور الا تذكير وارد ومشروع بقتل الحضارة الأصلية الموريتانية-الإفريقية عبر لعنة التماهي مع المحتل نعم انه قتل الحضارة وأظن ان مفهوم(الحضارة أمي) عند الكاتب إدريس شرايبي قد يكون من الروافد المؤسسة لهذه الفكرة العجيبة والهلامية التي تم الهمس بها منذ السطور الأولى من الرواية. . تقنية التواصل بين الأزمنة المختلفة امتاحت الكثير من تراث العرب الحكائي خصوصا من الف ليلة وليلة وفي نفس الوقت استعملت البديع والجميل من سحر وحكمة افريقيا وحضارتها الشفوية الأخاذة. وببساطة يجد المرء نفسه متدرجا - خلال تقدمه في قراءة الرواية- على سلم متصاعد في مسار صوفي يروم عين العرفان فيتحول لكائن أثيري حينا.. وحينا يجد في الطبابة النفسانية وسائل أخرى تفيد في التواصل مع من راحوا المهم ان التواصل يقع بشكل غير مبتسر وغير قسري وليس كما يحدث غالبا في قصص الخيال العلمي التي أفرغتها سينما هوليوود من عبق التاريخ وحولتها لاسطوانة مشروخة وماسخة. حين يريد الكاتب مثلا الحديث عن ظاهرة "الهلوسات " البصرية في معرض ملاقاته للشخوص فانه يدلف بنا لعالم "الاكتوبلازم" البلوري المجنح والواهم بعفوية رائعة انظر مثلا كيف يصف نقطة البدء في هذا الوصال الغريب : ساعتها أخذت أصوب بصري بقوة نحو نقطة الضوء الأزرق فشرعت تتمدد وتكبر ورحت أتدحرج نحوها بهدوء على أنغام موسيقى خافتة بل ربما حزينة إذ فيها كثير من همسات العابرين على رصيف الذكريات المقصية والبعيدة..وعمني ضوء شفاف فضي أو بلوري وكان ما كان ! للمكان سطوة خاصة في هذه القصة النادرة حيث ينتقل القارئ من أزقة بروكسيل وساحاتها بما فيها نصب "مانكن بيس" وهو تمثال مشهور لولد غض يتبول واقفا ـومنتصبا بشكل دفع الراوية لاشتياق أيام البدو ونعماء التبول في العراء فيعود بنا في لمح البصر من عاصمة أوروبا إلى أرض البداية والبداوة ! لا يفوت على الكاتب وهو ببروكسيل ان ينوه بافريقيا المهاجرة معه هناك ويتضح ذلك في أكثر من موضع وفي أكثر من شخص وعلى سبيل المثال استوقفني كثيرا وصفه لتلك الحسناء الرواندية التي تصرف على عجوز بلجيكي من شبابها ويصرف عليها من ماله فكتب عنها يقول : ":...لم استطع منع بصري من التجول الشره والبحلقة الآثمة في جسدها البهيج ..لقد تبدت لي فوق العشرين بسنوات قليلة..وكان لون بشرتها الحليبي المخلوط ببن القمم الخضراء وقهوتها يكسوها بملاءة براقة كأنها ملاءة الإنسان الأول.. وكانت قسماتها الحادة بلقيسية جدا وكان جيدها نفرتيتيا بامتياز ووصلتني همهمة ضحكاتها شبه المكتومة وهي تؤكد من بعيد ذكاء وملاحة صاحبتها..." في طيات هذه الرواية غزل عجيب بإفريقيا أي "بماما إفريقيا" حاضنة الإنسان الأول ومهجع الذاكرة السحيقة للإنسان ولا أظن ان أحدا من كتاب العربية تطرق ببلاغة وسحر لصلاتنا العتيدة بهذه الأرض وسكانها أكثر من صاحب منينة بلانشيه ولاغرو فموريتانيا كانت وستبقى همزة الوصل الرئيسية بين فضاءات العرب والزنج الذين يشكلون معا البنية العرقية لهذه القارة الأم. من قلعة تامشكط حيث يبدأ التسلسل المكاني الفعلي في رحلة شعراء بثلاثينيات القرن المنصرم نصل لانيور ثم عبر مجاهل السودان الفرنسي إلى خاي حيث ستركب العزيزة منينة قطار المجهول نحو الغرب مستعينة بتوصية فرنساوية وأخرى عربية سطرها شاعر مغرم . ما أجمل هذه الثنائية العربوفرنسية ! شاعرية المكان وجلالته تصل لأوجها في سرد مسار نواكشوط التي ستتحول الى موطن البطلة الرئيسية وعاصمة الأمة الوليدة تباعا لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد حيث تفرض مخيلة الكاتب علينا تجرع صراع غرائبي بين العاصمة وشبح منينة نفسها وتبدع هذه المخيلة الخصبة أيما إبداع في تأجيج التقابل والتناظر بين الأم-العاصمة والأم-الحاضنة... مستخدمة لذلك نوعا من المدركات الروحية تضرم بها نيران الشوق القاتل واللعنة المكبلة ويضفي ذلك على خاتمة الرواية بعدا فلسفيا عجيبا يحيل لمحنة السلطة والصراع عليها بين المتغلب المناقض لفطرة العدل والوريث الباحث عن حقه في أملاكه المغتصبة ! انه صراع جدلي رائع يوصل القارئ لشواهق اللذة وينزله لوهدات الألم في سرعة خارقة ومارقة ويلخص بألمعية مأساة السياسة وعثراتها في هكذا دول لم تستطع التكيف بعد مع الحداثة ورح العصر. يعتبر الكثيرون ان رواية موسم الهجرة للشمال للفقيد الطيب الصالح لخصت محنة الهويات المتصارعة وجدلية التكامل والتنافر بين شعوب وحضارات الشمال والجنوب لكن هناك زوايا مرت على الفقيد السوداني الكبير دون ان يقف عندها استطاع محمد ولد امين تلافيها وتطويعها بحركات أخاذة وعبقرية جعلت من منينة بلانشيه عملا كبيرا يتجاوز تماما موسم الهجرة للشمال ويستتبعه لأن منينة بلانشيه وبكل بساطة كشكول زاخر من الهجرات الشرقية والغربية الشمالية والجنوبية . هذا الكشكول سلط الضوء على أسطورية و"إحيائية" الثقافة الإفريقية وتصالحها الشفاهي مع التصوف الإسلامي وامتداد التواصل متعدد الأبعاد عربيا وافريقيا مع علوم الميتافزيقا الغربية خصوصا علم الباراسيكولوجيا بما يوفر من الانسجام الكامل بين فيوضات المتصوفة والإسقاط النجمي..بين الولاية والتخاطر.. وكل ذلك تم بشكل سلس وعفوي يؤكد ان المعرفة الإنسانية محبة مشتركة وهنا تخطى صاحبنا بجدارة كل من سبقوه في صياغة الرواية الحضارية. كتبت هذه الرواية القصيرة والماتعة لحد الإثارة القصوى بلغة جزلة فخمة واضحة وبعيدة عن التكلف والإطناب ومرد ذلك تجربة الروائي نفسه الذي عمل في قارات متعددة واختلط بثقافات كثيرة ولا يخفى على أي متفطن وجود بصمات من الكتابة الغربية الواضحة في أسلوبه حيث تجنب الإكثار وتوخى الدقة فجاءت المضامين قوية وفي حلة بسيطة وزهيدة وكأنها مجرد توصيف محكم لدواء محدد الكم والكيف لا منمقات لغوية فيه ولاحشو ولا إبراز عضلات معرفية . يستطيع أي قارئ مهما كان مستواه المعرفي ان يستمتع بهذه الرواية في المطالعة والتأمل لكنه سيكتشف في كل مرة عبارة مدفونة هنا او هناك تقلب فوقه المضامين والإيحاءات رأسا على عقب وهذا هو عنصر القوة والجمال الأكبر في أي عمل أدبي وهو عنصر لا يفوت على من له اهتمامات أدبية وفلسفية معمقة. سبق ونشر محمد ولد امين رواية مذكرات حسن ولد مختار ونالت حظها من النجاح محليا وجعلت صاحبها معروفا في الأوساط الأدبية الموريتانية بعد ان عرفه الناس في عوالم السياسة والصحافة لكنه بهذا الإبداع الجديد والأصيل انتقل بالرواية الموريتانية نحو العالمية وحجز لها مكانا مكينا في الأدب الإنساني وحسب تصوري كمهتم بفن الرواية صار من حقنا ان نطالب إخوتنا قراء الضاد بالالتفات نحوه –ونحونا- وان نقول لهم بكل صراحة انه من الممكن ان يكتب موريتاني رواية تضاهي الروائع العالمية الخالدة ومن حقنا عليهم ان يحتفوا بصاحبنا تماما كما احتفينا بكتاب القاهرة ودمشق..وبكتاب بغداد ومراكش ! الأدب أنساني او لا يكون...فهو فوق الولاءات والانتماءات لذلك ليس هناك أي مسوغ مقبول لتجاهل البعض لنا واعتبار أدباء الثغور مجرد هواة خصوصا ان هذه الرواية المتمردة والمحمومة استطاعت التميز بموسيقاها الداخلية الخافتة وتمكنت من الخروج على نسق نجيب محفوظ السائد في العالم العربي فهي تختلف في مضامينها وتقنياتها عن كل ما هو مألوف في سوق النشر العربي الذي كثيرا ما وصفه النقاد الأجانب: بالفضاء القاحل رهين البوتقة الظرفية الضيقة .! اقرؤوا هذه الرواية يا عرب... وستعرفون ان موريتانيا البعيدة أضافت لبنة جديدة لصرح الأدب العربي الحديث اقرؤوها واحكموا بأنفسكم.
عبد الرحمن ولد ودادي